بيير بورديو (اهم مقالته السوسيولجية)
2 مشترك
شهد القلوب :: شهد الأدبية :: المكتبة
صفحة 1 من اصل 1
بيير بورديو (اهم مقالته السوسيولجية)
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
اخوتي
بأذن الله ساخصص هذه الصفحة لجمع اكبر عدد من مقالات للعالم الاجتماع الفرنسي پيير بورديو '' Pierre Bourdieu ''
و قبل التطرق لاهم مقالات هذا العملاق الاجتماعي ساتناول نبذة بسيطة جدا عن حياته و كذا اهتماماته و مفاهيمه
بيير بورديو(01 أغسطس 1930 – 23 يناير 2002) عالم اجتماع فرنسي وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع. بدأ نجمه يبزغ بين المتخصصين انطلاقًا من الستينيات بعد إصداره كتاب الورثة (مع جون كلود باسرون)، وازدادت شهرته في آخر حياته بخروجه في مظاهرات ووقوفه مع فئات المحتجين والمضربين. اهتم بتناول أنماط السيطرة الاجتماعية بواسطة تحليل مادي للإنتاجات الثقافية يكفل إبراز آليات إعادة إنتاج البنيات الاجتماعية، وذلك بواسطة علم اجتماعي كلي يستفر كل العتاد المنهجي المتراكم في كل مجالات المعرفة عبر اختلاف التخصصات.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
بيار بورديو الذي فقدته فرنسا هو واحد من اكبر واعمق مفكريها خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ولعل اهم خاصيات هذا المفكر هو انه ظل يجسد حتى النهاية فئة المثقفين الملتزمين الذين كنا نعتقد انهم انقرضوا، خصوصا عقب انهيار الشيوعية وجدار برلين، فمثل ميشيل فوكو الذي توفي عام 1984، ينتسب بورديو الى اولئك الاكاديميين المرموقين الذين لا يفصلون بين الالتزام الفكري والالتزام السياسي، اولئك الذين لا يتحملون خمول المثقفين وانانيتهم وبروجهم العاجية. وكان الفيلسوف الالماني يورجن هابرماس على حق عندما رثاه قائلا:
«ما يفتنني عند بيار بورديو هي اريحية ذكائه وسخائه واستعداده الدائم لخوض المعارك الاجتماعية. وما يفتنني وسيظل كذلك هي قدرته على التحليل العميق كباحث وكأكاديمي والتي لا تمنعه من ان يتحول فجأة الى مثقف انساني من الطراز القديم بحيث لا يرضى بأن يكون شاهدا على الحدث فاعلا فيه».
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
وقد ظهر الالتزام مبكرا عند بيار بورديو وذلك خلال الخمسينات عندما كان في جامعة الجزائر. ففي ذلك الوقت انغمس في دراسة «تهجير» العمال الجزائريين المنتمين الى عائلات تقليدية، تم تدميرها بحكم بروز بنى اقتصادية حديثة تم فرضها بالقوة على مجتمع لم يكن مهيئا جيدا لها. وستكون تلك التجربة جد مفيدة بالنسبة له، ذلك انها مثلت اختياره الذي سوف لن يتخلى عنه حتى النهاية. وفي الجزائر ايضا سوف يعمق بيار بورديو ابحاثه في مجال الاثنولوجيا (علم السلالات) من خلال الطقوس والعادات في منطقة القبائل والروابط الاسرية والبنى الايديولوجية والاجتماعية الناتجة عن الهيمنة الذكورية. وقد صدرت ابحاثه تلك في كتاب حمل عنوان «مخطط اجمالي لنظرية تطبيقية». وقد حاز هذا الكتاب الذي صدر عام 1972 اعجاب وتقدير كبار علماء الاثنولوجيا وفي مقدمتهم كلود ليفي ستراوس صاحب المؤلف الذائع الصيت «المدارات الحزينة».
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
في عام 1975 اصدر كتابه «تمييز» الذي يعتبره الكثيرون افضل مؤلفاته، بل واحدا من اهم المؤلفات الخاصة بالعلوم الاجتماعية خلال القرن العشرين. ففي هذا الكتاب يحاول بناء نظرية لمجتمع يقوم على فكرة ان الافراد والمجموعات لا يوجدون إلا عبر علاقة «تمييزية» مع الافراد والمجموعات الآخرين. فمثل الكيانات اللغوية، ليس للملكات الاجتماعية والفردية والجماعية معنى في حد ذاتها، لكن فقط ضمن بنية ترابطية وتدرجية لا تتوقف عن التحول والتنقل.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
في الثمانينات اهتم بيار بورديو بأوضاع التعليم في فرنسا، واصدر مع جان كلود باسرون بعض الكتب في هذا المجال ادان فيها الجانب الاسود في التعليم الفرنسي الذي يدعي القائمون عليه بأنه تعليم ديمقراطي لائكي (علماني) وكان هدفه من خلال ذلك ابراز التأثير الكبير للمدرسة وللثقافة بصفة عامة في بناء المجتمع ونحت شخصية الفرد، بعدها انصب اهتمام بيار بورديو على الفن والأدب فكتب العديد من الابحاث والدراسات المهمة عن فلوبير وعن فن مانيه وعن هانس هاكه ودانيال بوران. وكان يكن تقديرا كبيرا للشاعر الفرنسي فرانسيس بونج وللروائي كلود سيمون الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1986 وللكاتب النمساوي توماس بارنهارد. وفي مؤلفات اخرى اصدرها خلال التسعينات، شن بيار بورديو هجوما عنيفا على وسائل الاعلام السمعية والبصرية التي حولت الثقافة حسب رأيه الى «سلعة رخيصة». وكان امله من خلال ذلك اثارة جدل حول هذا الموضوع يحرك السواكن، ويخرج الحياة الاعلامية والثقافية من خمولها ويكشف خداعها واكاذيبها غير انه لم يتلق غير الشتائم المقذعة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
وخلال اضرابات شتاء 1995 التي هزت فرنسا، كان بيار بورديو حاضرا بقوة في حلقات العمال والعاطلين عن العمل محاولا من خلال ذلك فهم التطورات الجديدة التي حدثت في المجتمع الفرنسي وايضا ادانة الليبرالية الجديدة التي كانت قد سيطرت سيطرة شبه كلية على العالم بأسره. وفي احد الحوارات التي اجريت معه في تلك الفترة، قال بيار بورديو مدافعا عن موقفه:
«ان ما ادافع عنه هو امكانية وضرورة وجود المثقف النقدي. ليس هناك ديمقراطية حقيقية من دون سلطة نقدية تواجهها. والمثقف هو في رأيي هذه السلطة النقدية».
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
وفي السنوات الاخيرة من حياته، شن بيار بورديو هجوما عنيفا على العولمة. وفي محاضرة القاها في اثينا قال:
«ان من المهم، بل من الضروري ان يساهم عدد من الباحثين المستقلين في الحركة الاجتماعية ذلك اننا نواجه الآن سياسة العولمة (أؤكد على كلمة سياسة العولمة، ولا اتحدث عن العولمة كما لو انها سيرورة طبيعية). ان هذه السياسة في جانب كبير منها، ظلت الى حد هذه الساعة سرية في انتشارها وفي توزيعها. لهذا لا بد من عمل بحثي لاكتشافها قبل ان يشرع في تطبيقها. بالاضافة الى كل هذا ارى ان هذه السياسة لها نتائج يمكن حدسها بفضل العلوم الاجتماعية، لكنها في المدى القريب، سوف تظل لا مرئية بالنسبة لاغلبية الناس، وهناك خاصية اخرى وهي ان هناك باحثين يساهمون في انتاجها وتركيزها.«
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
والسؤال هو «هل على اولئك الذين يعلمون جيدا ان هذه السياسة سوف تؤدي الى نتائج وخيمة ان يظلوا صامتين؟ واذا ما كانت الكرة الارضية مهددة بالعديد من الكوارث، فهل يظل اولئك الذين يعرفون ذلك مسبقا صامتين هم ايضا؟» ومحددا رؤيته للالتزام، اضاف بيار بورديو قائلا:
«لا بد لكي يكون المثقف ملتزما التزاما جادا وحقيقيا ان تكون ثقافته ملتزمة هي ايضا، وهذه الثقافة لا تكتسب الا في العمل الثقافي والعلمي الراضخ لقواعد المجموعة العلمية».
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
ولكن ما هو الدور الذي يمكن ان يلعبه المثقف في الحركة الاجتماعية؟ مجيبا عن هذا السؤال في محاضرته المذكورة، قال بيار بورديو: «اولا نحن لا نطلب من المثقف ان يعطي دروسا مثلما يفعل بعض المثقفين العفويين الذين عند عجزهم عن فرض سلعهم في الاسواق العلمية هم يذهبون ليلعبوا دور المثقفين لدى من هم ليسوا مثقفين زاعمين في نفس الوقت بأن لا وجود للمثقف. ان الباحث ليس رسولا ولا قائدا فكريا، عليه ان يكتشف لنفسه دورا جديدا جد صعب وهو ان يتعلم كيف يسمع وكيف يبحث وكيف يكتشف. وعليه ان يساعد المنظمات الاجتماعية والنقابية على مواجهة السياسة الليبرالية الجديدة».
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
المفاهيم الأساسية
انتقد بورديو تغاضي الماركسية عن العوامل غير الاقتصادية، إذ أن الفاعلين المسيطرين ، في نظره، بإمكانهم فرض منتجاتهم الثقافية (مثلا ذوقهم الفني) أو الرمزية (مثلا طريقة جلوسهم أو ضحكهم وما إلى ذلك). فللعنف الرمزي (أي قدرة المسيطرين على الحجب عن تعسف هذه المنتجات الرمزية وبالتالي على إظهارها على أنها شرعية) دور أساسي في فكر بيير بورديو. معنى ذلك أن كل سكان سوريا مثلا بما فيهم الفلاحون سيعتبرون لهجة الشام مهذبة أنيقة واللهجات الريفية غليظة جدًّا رغم أن اللهجة الشامية ليست لها قيمة أعلى بحد ذاتها. وإنما هي لغة المسيطرين من المثقفين والساسة عبر العصور وأصبح كل الناس يسلّمون بأنها أفضل وبأن لغة البادية رديئة. فهذه العملية التي تؤدي بالمغلوب إلى أن يحتقر لغته ونفسه وأن يتوق إلى امتلاك لغة الغالبين (أو غيرها من منتجاتهم الثقافية والرمزية) هي مظهر من مظاهر العنف الرمزي.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الحقول الاجتماعية
يرى بورديو أن العالَم الاجتماعي، في المجتمعات الحديثة، ينقسم إلى حقول، أي فضاآت اجتماعية أساسها نشاط معيَّن (مثلا: الصحافة، الأدب، كرة القدم إلخ) يتنافس فيها الفاعلون لاحتلال مواقع السيطرة (مثلا، يريد الصحافي أن يشتغل في أنفذ جريدة وأن يحصل فيها على أجلّ منصب). فعلى غرار التصور الماركسي، يبدو العالَم الاجتماعي، عند بورديو، ذا طبيعة تنازُعيَّة، بيد أنه يؤكد أن التنازعات المكونة للعالم الاجتماعي تخص مختلف الحقول وليست مجرد صراع بين طبقات معينة وثابتة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الهابتوس
الهابتوس من المفاهيم الأساسية في العمل النظري عند بورديو. ويتحدد باعتباره نسق الاستعدادات الدائمة والقابلة للنقل اللتي يكتسبها الفاعل الاجتماعي من خلال وجوده في حقل اجتماعي بالعالم الاجتماعي حيث يعيش. ويترجم هذا المصطلح في العربية بلفظ التطبع أو السجية أو السَّمْت. ولعل اللفظ الأخير أقرب لأداء المعنى المطلوب، من حيث إنه يدل أصلًا على الهيئة/الْحال. ويلعب هذا المفهوم دورا مركزيا في عمل بورديو النظري، إلى جانب مفهوم الحقل والعنف الرمزي. فالفاعل الاجتماعي يكتسب، بشكل غير واع، مجموعة من الاستعدادات من خلال انغماسه في محيطه الاجتماعي تمكِّنه من أن يكيف عمله مع ضرورات المعيش اليومي (مثلا، يطور الفلاح عادات ذهنية وسلوكية معينة يطبقها على كل المشاكل التي يواجهها في وسطه). ويختلف الهابتوس باختلاف الحقول اللتي هو طرف فيها وباختلاف الموقع اللذي يحتله الفاعل الاجتماعي في مجاله الخاص.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الانعكاسية
ظل بورديو يؤكد أن مكتسبات البحث العلمي يجب أن تسلط على تحليل شروط اشتغال الباحث نفسه بما هو ذات منتجة للمعرفة، أي لا بد من ممارسة تفكير انعكاسي على ضوء نتائج العلم، خصوصا العلم الاجتماعي. ومن هنا تأتي ضرورة أن يقوم الباحث الاجتماعي بتحليل عملَه وخطابه ونشاطه تحليلا انعكاسيًا (ذاتيًا). ولعل أبرز تطبيق لهذا يوجد في كتاب الإنسان الأكاديمي اللذي تناول فيه بورديو مجموع الشروط اللتي تحدد بروز واشتغال المتخصص كأستاذ جامعي أو مثقف أكاديمي. وتتمثل أهمية الانعكاسية في كونها تجعل الباحث يستعمل الاكتشافات المترتبة على ممارسته العلمية ليغربل دوره وليكشف العوامل الناتجة عن تاريخه الشخصي اللتي تشرط حاله كذات مفكرة واللتي تؤثر على ممارسته العلمية وتشوش رؤيته للمجتمع بدون وعي في غالب الأحيان. ولذا يعد التحليل الانعكاسي شرطًا لا غنى عنه لكل ممارسة علمية حقيقية.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أهم أعماله
أنتج بيير بورديو أكثر من 30 كتابًا ومئات من المقالات والدراسات اللتي ترجمت إلى أبرز الألسن في العالم واللتي جعلته يتبوأ مكانة بارزة بين الأسماء البارزة في علم الاجتماع والفكر النقدي منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
* سوسيولوجيا الجزائر (1958)
* الوَرَثَة. الطلبة والثقافة (1964)
* إعادة الإنتاج. أصول نظرية في نظام التعليم (1970)؛
* التمييز-التميز. النقد الاجتماعي لِحُكم الذوق (1979)؛
* الْحِس العملي (1980)؛
* ما معنَى أن تتكلم. اقتصاد التبادلات اللغوية (1982)؛
* درس في الدرس (1982)؛
* مسائل في علم الاجتماع (1984)؛
* الإنسان الأكاديمي (1984)؛
* أشياء مَقُولة (1987)؛
* الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدغر (1988)؛
* إجابات. من أجل إنسيات انعكاسية (1992)؛
* قواعد الفن. تكوُّن وبنية الْحقل الْأدبي (1992)؛
* بؤس العالَم (1993)؛
* عِلَلٌ عَمَلية. في نظرية الفعل (1994)؛
* في التلفزة (1996)؛
* تأملات باسكالية (1997)؛
* في التلفزة (1996)؛
* السيطرة الذكورية (1998)؛
* البنيات الاجتماعية للاقتصاد (2000)؛
* علم العلم والانعكاسية (2001)؛
* تدخلات. العلم الاجتماعي والعمل السياسي 1961-2001، (2002)؛
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أعماله المترجمة إلى العربية
* درس في الدرس (عبد السلام بنعبد العالي)،1986؛
* حرفة عالم الاجتماع (نظير جاهل)، 1993؛
* العنف الرمزي. بحث في أصول علم الاجتماع التربوي (نظير جاهل)،1994؛
* أسئلة علم الاجتماع (إبراهيم فتحي)، 1995؛
* أسئلة علم الاجتماع. في علم الاجتماع الانعكاسي (عبد الجليل الكور)،1997؛
* قواعد الفن (إبراهيم فتحي)، 1998؛
* عن التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول (درويش الحلوجي)، 1999 ؛
* العقلانية العملية. حول الأسباب العملية ونظريتها (عادل العوا)، 2000؛
* السيطرة الذكورية (أحمد حسان)،2001 ؛
* بؤس العالم (محمد صبح)، 2001 ؛
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
اخوتي
بأذن الله ساخصص هذه الصفحة لجمع اكبر عدد من مقالات للعالم الاجتماع الفرنسي پيير بورديو '' Pierre Bourdieu ''
و قبل التطرق لاهم مقالات هذا العملاق الاجتماعي ساتناول نبذة بسيطة جدا عن حياته و كذا اهتماماته و مفاهيمه
بيير بورديو(01 أغسطس 1930 – 23 يناير 2002) عالم اجتماع فرنسي وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع. بدأ نجمه يبزغ بين المتخصصين انطلاقًا من الستينيات بعد إصداره كتاب الورثة (مع جون كلود باسرون)، وازدادت شهرته في آخر حياته بخروجه في مظاهرات ووقوفه مع فئات المحتجين والمضربين. اهتم بتناول أنماط السيطرة الاجتماعية بواسطة تحليل مادي للإنتاجات الثقافية يكفل إبراز آليات إعادة إنتاج البنيات الاجتماعية، وذلك بواسطة علم اجتماعي كلي يستفر كل العتاد المنهجي المتراكم في كل مجالات المعرفة عبر اختلاف التخصصات.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
بيار بورديو الذي فقدته فرنسا هو واحد من اكبر واعمق مفكريها خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ولعل اهم خاصيات هذا المفكر هو انه ظل يجسد حتى النهاية فئة المثقفين الملتزمين الذين كنا نعتقد انهم انقرضوا، خصوصا عقب انهيار الشيوعية وجدار برلين، فمثل ميشيل فوكو الذي توفي عام 1984، ينتسب بورديو الى اولئك الاكاديميين المرموقين الذين لا يفصلون بين الالتزام الفكري والالتزام السياسي، اولئك الذين لا يتحملون خمول المثقفين وانانيتهم وبروجهم العاجية. وكان الفيلسوف الالماني يورجن هابرماس على حق عندما رثاه قائلا:
«ما يفتنني عند بيار بورديو هي اريحية ذكائه وسخائه واستعداده الدائم لخوض المعارك الاجتماعية. وما يفتنني وسيظل كذلك هي قدرته على التحليل العميق كباحث وكأكاديمي والتي لا تمنعه من ان يتحول فجأة الى مثقف انساني من الطراز القديم بحيث لا يرضى بأن يكون شاهدا على الحدث فاعلا فيه».
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
وقد ظهر الالتزام مبكرا عند بيار بورديو وذلك خلال الخمسينات عندما كان في جامعة الجزائر. ففي ذلك الوقت انغمس في دراسة «تهجير» العمال الجزائريين المنتمين الى عائلات تقليدية، تم تدميرها بحكم بروز بنى اقتصادية حديثة تم فرضها بالقوة على مجتمع لم يكن مهيئا جيدا لها. وستكون تلك التجربة جد مفيدة بالنسبة له، ذلك انها مثلت اختياره الذي سوف لن يتخلى عنه حتى النهاية. وفي الجزائر ايضا سوف يعمق بيار بورديو ابحاثه في مجال الاثنولوجيا (علم السلالات) من خلال الطقوس والعادات في منطقة القبائل والروابط الاسرية والبنى الايديولوجية والاجتماعية الناتجة عن الهيمنة الذكورية. وقد صدرت ابحاثه تلك في كتاب حمل عنوان «مخطط اجمالي لنظرية تطبيقية». وقد حاز هذا الكتاب الذي صدر عام 1972 اعجاب وتقدير كبار علماء الاثنولوجيا وفي مقدمتهم كلود ليفي ستراوس صاحب المؤلف الذائع الصيت «المدارات الحزينة».
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
في عام 1975 اصدر كتابه «تمييز» الذي يعتبره الكثيرون افضل مؤلفاته، بل واحدا من اهم المؤلفات الخاصة بالعلوم الاجتماعية خلال القرن العشرين. ففي هذا الكتاب يحاول بناء نظرية لمجتمع يقوم على فكرة ان الافراد والمجموعات لا يوجدون إلا عبر علاقة «تمييزية» مع الافراد والمجموعات الآخرين. فمثل الكيانات اللغوية، ليس للملكات الاجتماعية والفردية والجماعية معنى في حد ذاتها، لكن فقط ضمن بنية ترابطية وتدرجية لا تتوقف عن التحول والتنقل.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
في الثمانينات اهتم بيار بورديو بأوضاع التعليم في فرنسا، واصدر مع جان كلود باسرون بعض الكتب في هذا المجال ادان فيها الجانب الاسود في التعليم الفرنسي الذي يدعي القائمون عليه بأنه تعليم ديمقراطي لائكي (علماني) وكان هدفه من خلال ذلك ابراز التأثير الكبير للمدرسة وللثقافة بصفة عامة في بناء المجتمع ونحت شخصية الفرد، بعدها انصب اهتمام بيار بورديو على الفن والأدب فكتب العديد من الابحاث والدراسات المهمة عن فلوبير وعن فن مانيه وعن هانس هاكه ودانيال بوران. وكان يكن تقديرا كبيرا للشاعر الفرنسي فرانسيس بونج وللروائي كلود سيمون الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1986 وللكاتب النمساوي توماس بارنهارد. وفي مؤلفات اخرى اصدرها خلال التسعينات، شن بيار بورديو هجوما عنيفا على وسائل الاعلام السمعية والبصرية التي حولت الثقافة حسب رأيه الى «سلعة رخيصة». وكان امله من خلال ذلك اثارة جدل حول هذا الموضوع يحرك السواكن، ويخرج الحياة الاعلامية والثقافية من خمولها ويكشف خداعها واكاذيبها غير انه لم يتلق غير الشتائم المقذعة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
وخلال اضرابات شتاء 1995 التي هزت فرنسا، كان بيار بورديو حاضرا بقوة في حلقات العمال والعاطلين عن العمل محاولا من خلال ذلك فهم التطورات الجديدة التي حدثت في المجتمع الفرنسي وايضا ادانة الليبرالية الجديدة التي كانت قد سيطرت سيطرة شبه كلية على العالم بأسره. وفي احد الحوارات التي اجريت معه في تلك الفترة، قال بيار بورديو مدافعا عن موقفه:
«ان ما ادافع عنه هو امكانية وضرورة وجود المثقف النقدي. ليس هناك ديمقراطية حقيقية من دون سلطة نقدية تواجهها. والمثقف هو في رأيي هذه السلطة النقدية».
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
وفي السنوات الاخيرة من حياته، شن بيار بورديو هجوما عنيفا على العولمة. وفي محاضرة القاها في اثينا قال:
«ان من المهم، بل من الضروري ان يساهم عدد من الباحثين المستقلين في الحركة الاجتماعية ذلك اننا نواجه الآن سياسة العولمة (أؤكد على كلمة سياسة العولمة، ولا اتحدث عن العولمة كما لو انها سيرورة طبيعية). ان هذه السياسة في جانب كبير منها، ظلت الى حد هذه الساعة سرية في انتشارها وفي توزيعها. لهذا لا بد من عمل بحثي لاكتشافها قبل ان يشرع في تطبيقها. بالاضافة الى كل هذا ارى ان هذه السياسة لها نتائج يمكن حدسها بفضل العلوم الاجتماعية، لكنها في المدى القريب، سوف تظل لا مرئية بالنسبة لاغلبية الناس، وهناك خاصية اخرى وهي ان هناك باحثين يساهمون في انتاجها وتركيزها.«
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
والسؤال هو «هل على اولئك الذين يعلمون جيدا ان هذه السياسة سوف تؤدي الى نتائج وخيمة ان يظلوا صامتين؟ واذا ما كانت الكرة الارضية مهددة بالعديد من الكوارث، فهل يظل اولئك الذين يعرفون ذلك مسبقا صامتين هم ايضا؟» ومحددا رؤيته للالتزام، اضاف بيار بورديو قائلا:
«لا بد لكي يكون المثقف ملتزما التزاما جادا وحقيقيا ان تكون ثقافته ملتزمة هي ايضا، وهذه الثقافة لا تكتسب الا في العمل الثقافي والعلمي الراضخ لقواعد المجموعة العلمية».
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
ولكن ما هو الدور الذي يمكن ان يلعبه المثقف في الحركة الاجتماعية؟ مجيبا عن هذا السؤال في محاضرته المذكورة، قال بيار بورديو: «اولا نحن لا نطلب من المثقف ان يعطي دروسا مثلما يفعل بعض المثقفين العفويين الذين عند عجزهم عن فرض سلعهم في الاسواق العلمية هم يذهبون ليلعبوا دور المثقفين لدى من هم ليسوا مثقفين زاعمين في نفس الوقت بأن لا وجود للمثقف. ان الباحث ليس رسولا ولا قائدا فكريا، عليه ان يكتشف لنفسه دورا جديدا جد صعب وهو ان يتعلم كيف يسمع وكيف يبحث وكيف يكتشف. وعليه ان يساعد المنظمات الاجتماعية والنقابية على مواجهة السياسة الليبرالية الجديدة».
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
المفاهيم الأساسية
انتقد بورديو تغاضي الماركسية عن العوامل غير الاقتصادية، إذ أن الفاعلين المسيطرين ، في نظره، بإمكانهم فرض منتجاتهم الثقافية (مثلا ذوقهم الفني) أو الرمزية (مثلا طريقة جلوسهم أو ضحكهم وما إلى ذلك). فللعنف الرمزي (أي قدرة المسيطرين على الحجب عن تعسف هذه المنتجات الرمزية وبالتالي على إظهارها على أنها شرعية) دور أساسي في فكر بيير بورديو. معنى ذلك أن كل سكان سوريا مثلا بما فيهم الفلاحون سيعتبرون لهجة الشام مهذبة أنيقة واللهجات الريفية غليظة جدًّا رغم أن اللهجة الشامية ليست لها قيمة أعلى بحد ذاتها. وإنما هي لغة المسيطرين من المثقفين والساسة عبر العصور وأصبح كل الناس يسلّمون بأنها أفضل وبأن لغة البادية رديئة. فهذه العملية التي تؤدي بالمغلوب إلى أن يحتقر لغته ونفسه وأن يتوق إلى امتلاك لغة الغالبين (أو غيرها من منتجاتهم الثقافية والرمزية) هي مظهر من مظاهر العنف الرمزي.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الحقول الاجتماعية
يرى بورديو أن العالَم الاجتماعي، في المجتمعات الحديثة، ينقسم إلى حقول، أي فضاآت اجتماعية أساسها نشاط معيَّن (مثلا: الصحافة، الأدب، كرة القدم إلخ) يتنافس فيها الفاعلون لاحتلال مواقع السيطرة (مثلا، يريد الصحافي أن يشتغل في أنفذ جريدة وأن يحصل فيها على أجلّ منصب). فعلى غرار التصور الماركسي، يبدو العالَم الاجتماعي، عند بورديو، ذا طبيعة تنازُعيَّة، بيد أنه يؤكد أن التنازعات المكونة للعالم الاجتماعي تخص مختلف الحقول وليست مجرد صراع بين طبقات معينة وثابتة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الهابتوس
الهابتوس من المفاهيم الأساسية في العمل النظري عند بورديو. ويتحدد باعتباره نسق الاستعدادات الدائمة والقابلة للنقل اللتي يكتسبها الفاعل الاجتماعي من خلال وجوده في حقل اجتماعي بالعالم الاجتماعي حيث يعيش. ويترجم هذا المصطلح في العربية بلفظ التطبع أو السجية أو السَّمْت. ولعل اللفظ الأخير أقرب لأداء المعنى المطلوب، من حيث إنه يدل أصلًا على الهيئة/الْحال. ويلعب هذا المفهوم دورا مركزيا في عمل بورديو النظري، إلى جانب مفهوم الحقل والعنف الرمزي. فالفاعل الاجتماعي يكتسب، بشكل غير واع، مجموعة من الاستعدادات من خلال انغماسه في محيطه الاجتماعي تمكِّنه من أن يكيف عمله مع ضرورات المعيش اليومي (مثلا، يطور الفلاح عادات ذهنية وسلوكية معينة يطبقها على كل المشاكل التي يواجهها في وسطه). ويختلف الهابتوس باختلاف الحقول اللتي هو طرف فيها وباختلاف الموقع اللذي يحتله الفاعل الاجتماعي في مجاله الخاص.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الانعكاسية
ظل بورديو يؤكد أن مكتسبات البحث العلمي يجب أن تسلط على تحليل شروط اشتغال الباحث نفسه بما هو ذات منتجة للمعرفة، أي لا بد من ممارسة تفكير انعكاسي على ضوء نتائج العلم، خصوصا العلم الاجتماعي. ومن هنا تأتي ضرورة أن يقوم الباحث الاجتماعي بتحليل عملَه وخطابه ونشاطه تحليلا انعكاسيًا (ذاتيًا). ولعل أبرز تطبيق لهذا يوجد في كتاب الإنسان الأكاديمي اللذي تناول فيه بورديو مجموع الشروط اللتي تحدد بروز واشتغال المتخصص كأستاذ جامعي أو مثقف أكاديمي. وتتمثل أهمية الانعكاسية في كونها تجعل الباحث يستعمل الاكتشافات المترتبة على ممارسته العلمية ليغربل دوره وليكشف العوامل الناتجة عن تاريخه الشخصي اللتي تشرط حاله كذات مفكرة واللتي تؤثر على ممارسته العلمية وتشوش رؤيته للمجتمع بدون وعي في غالب الأحيان. ولذا يعد التحليل الانعكاسي شرطًا لا غنى عنه لكل ممارسة علمية حقيقية.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أهم أعماله
أنتج بيير بورديو أكثر من 30 كتابًا ومئات من المقالات والدراسات اللتي ترجمت إلى أبرز الألسن في العالم واللتي جعلته يتبوأ مكانة بارزة بين الأسماء البارزة في علم الاجتماع والفكر النقدي منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
* سوسيولوجيا الجزائر (1958)
* الوَرَثَة. الطلبة والثقافة (1964)
* إعادة الإنتاج. أصول نظرية في نظام التعليم (1970)؛
* التمييز-التميز. النقد الاجتماعي لِحُكم الذوق (1979)؛
* الْحِس العملي (1980)؛
* ما معنَى أن تتكلم. اقتصاد التبادلات اللغوية (1982)؛
* درس في الدرس (1982)؛
* مسائل في علم الاجتماع (1984)؛
* الإنسان الأكاديمي (1984)؛
* أشياء مَقُولة (1987)؛
* الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدغر (1988)؛
* إجابات. من أجل إنسيات انعكاسية (1992)؛
* قواعد الفن. تكوُّن وبنية الْحقل الْأدبي (1992)؛
* بؤس العالَم (1993)؛
* عِلَلٌ عَمَلية. في نظرية الفعل (1994)؛
* في التلفزة (1996)؛
* تأملات باسكالية (1997)؛
* في التلفزة (1996)؛
* السيطرة الذكورية (1998)؛
* البنيات الاجتماعية للاقتصاد (2000)؛
* علم العلم والانعكاسية (2001)؛
* تدخلات. العلم الاجتماعي والعمل السياسي 1961-2001، (2002)؛
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أعماله المترجمة إلى العربية
* درس في الدرس (عبد السلام بنعبد العالي)،1986؛
* حرفة عالم الاجتماع (نظير جاهل)، 1993؛
* العنف الرمزي. بحث في أصول علم الاجتماع التربوي (نظير جاهل)،1994؛
* أسئلة علم الاجتماع (إبراهيم فتحي)، 1995؛
* أسئلة علم الاجتماع. في علم الاجتماع الانعكاسي (عبد الجليل الكور)،1997؛
* قواعد الفن (إبراهيم فتحي)، 1998؛
* عن التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول (درويش الحلوجي)، 1999 ؛
* العقلانية العملية. حول الأسباب العملية ونظريتها (عادل العوا)، 2000؛
* السيطرة الذكورية (أحمد حسان)،2001 ؛
* بؤس العالم (محمد صبح)، 2001 ؛
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
عدل سابقا من قبل عبير الروح في الأربعاء 12 يناير 2011, 12:13 am عدل 1 مرات
عبير الروح- عضو ماسي
-
عدد المساهمات : 29839
نقاط : 115307
تاريخ التسجيل : 09/02/2010
رد: بيير بورديو (اهم مقالته السوسيولجية)
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الشطط السلطوي المبرر بالعقل
بـقـلـــم : بيير بورديو
جاء من أعماق البلدان الإسلامية سؤال في غاية العمق يخص النزعة الكونية الغربية المغلوطة ؛ أي ما أدعوه النزعة الإمبريالية للكوني . لقد كانت فرنسا تجسيدا بامتياز لهذه النزعة الإمبريالية التي استحثت هنا ، في هذا البلد بالذات ، نزعة شعبوية وطنية مرتبطة في نظري ارتباطا وثيقا بإسم هيردر . وإذا كان صحيحا أن نزعة كونية معينة ليست إلا نزعة وطنية تستدعي الكوني ( حقوق الإنسان . . الخ ) من أجل فرض ذاتها ، فسيصبح من الصعوبة بمكان أن نصف بالرجعية أي رد فعل أصولي النزعة ضدها . إن العقلانية العلموية ؛ أي عقلانية النماذج الرياضية التي تستوحي سياسة صندوق النقد الدولي FMI أو البنك العالمي ، سياسة Law firms كبريات الشركات المتعددة الجنسيات القانونية التي تفرض تقاليد القانون الأمريكي على مجموع البسيطة ، أي سياسة نظريات الفعل العقلاني . . الخ ، إن هذه العقلانية هي في نفس الآن تعبير وضمانة لعجرفة مونوبول غربي ، تقود إلى الفعل كما لو أن بعض الناس يمتلكون العقل بشكل مطلق ويحتكرونه ، ويمكنهم أن يجعلوا من أنفسهم ، كما نقول عادة ، دركيي العالم ؛ أي مالكين وممسكين معلن عنهم ذاتيا بمونوبول العنف المشروع ، القادر على وضع قوة الأسلحة في خدمة العدالة الكونية . إن العنف الإرهابي ، عبر لاعقلانية اليأس التي ينزرع بداخلها تقريبا دوما ، يحيل على العنف المتسم بالعطالة لدى السلطات التي تتحجج بالعقل . إن القهر الاقتصادي يتزيا غالبا بالأسباب القانونية ، وتغطي الإمبريالية ذاتها بمشروعية المؤسسات الدولية ، وعن طريق نفاق ضروب العقلنة ذاتها المخصصة لوضع قناع على معاييرها المزدوجة ، فإنها تنحو لدى الشعوب العربية ، الأمريكية الجنوبية والإفريقية وفي حضنها نحو إحداث أو تبرير ثورة جد عميقة ضد العقل الذي لا يمكن فصله عن ضروب وألوان الشطط في السلطة التي تتسلح وتستصدر التراخيص من العقل ( الاقتصادي ـ العلمي أو غيرهما ) . إن هذه الأشكال من " اللاعقلانية " التي هي في جزء منها نتاج عقلانيتنا وإمبرياليتنا مجتاحة غازية أو ضعيفة ، ضيقة الأفق ، دفاعية نكوصية وقمعية حسب الأمكنة والأزمنة . إن الأمر يتعلق مرة أخرى بالدفاع عن العقل أكثر من أن يتعلق بمصارعة أولئك الذين يخفون خلف مظاهر العقل ضروب شططهم في استعمال السلطة أو الذين يستغلون أسلحة العقل من أجل ترسيخ أو تبرير إمبراطورية اعتباطية وتعسفية .
فرانكفورت ، أكتوبر 1995 .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أسطورة " العولمة " والدولة الاجتماعية الأوربية
بـقـلـــم : بيير بورديو
نسمع اليوم كلاما يقال في كل مكان ، ــ وذاك هو ما يشكل قوة هذا الخطاب المهيمن ــ ، مفاده أن لا شيء يمكن أن يقف موقف المعارض للمنظور النيوليبرالي الذي نجح في أن يقدم نفسه كمنظور بديهي لا بديل له أو عنه . وإذا كان لهذا المنظور كل هذا الانتشار ، فلأن هنالك مجهودا بكامله للغرس والترسيخ الرمزي ساهم فيه بفعالية كل من الصحافيين أو المواطنين العاديين ، وخاصة وبنشاط ، عدد معين من المثقفين . ضد هذه السيطرة المفروضة دوما ، المخاتلة والمخادعة ، والتي تنتج عن طريق التشرب والاختراق اعتقادا حقيقيا ، يبدو لي أن للباحثين دورا يلعبونه في هذا الإطار ؛ فهم يستطيعون أولا تحليل كيفية إنتاج وتغلغل هذا الخطاب : وهنالك انشغال متزايد أكثر فأكثر بإنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا بالوصف الدقيق للإجراءات التي يتم وفقها إنتاج وترويج هذه النظرة للعالم ، وعن طريق سلسلة من التحاليل التي تنسحب في نفس الآن على النصوص والمجلات التي تم نشر هذا الخطاب وفرضه بها رويدا رويدا باعتباره مشروعا ، وكذا عبر الخصائص المميزة لكتابها واللقاءات التي يجتمع من خلالها هؤلاء الأخيرون من أجل إنتاجه . . الخ ، فإن هذه الأشغال أوضحت ، بإنجلترا وفرنسا ، كيف تم إنجاز عمل دائم أشرك لهذا الغرض مثقفين ، صحافيين ورجال أعمال ، من أجل فرض منظور نيو ليبرالي يبدو كما لو أنه ينطلق من ذاته ، منظور يُلبِس من حيث الجوهر العقلنات الاقتصادية الافتراضات الأكثر كلاسيكية للفكر المحافظ لكل الأزمنة ولكل البلدان . إنني أعني بهذا دراسة حول دور مجلة Preuves تم ترويجها ، وهي الممولة من طرف الـ CIA ، من طرف كبار المثقفين الفرنسيين ، والتي خلال ما بين 20 إلى 25 سنة ــ إذ يحتاج الأمر إلى وقت حتى تتحول بعض الأشياء الخاطئة إلى أشياء سليمة ــ أنتجت بدون هوادة ، وضد التيار في البداية ، أفكارا تحولت رويدا رويدا إلى أفكار واضحة . ونفس الشيء حدث بإنجلترا ؛ فالنزعة التاتشرية لم تعرف ميلادها مع السيدة تاتشر ، بل تم إعدادها منذ مدة طويلة من طرف جماعات من المثقفين الذين كانت لديهم ، في غالبيتهم ، منابر بكبريات الجرائد. وأول مساهمة كانت ممكنة للباحثين تمثلت في العمل على نشر هذه التحليلات بصيغ يمكن للجميع الوصول إليها والاطلاع عليهــا .
إن عملية فرض هذه الأفكار التي ابتدأت منذ مدة طويلة لا زالت مستمرة إلى اليوم ؛ فيمكننا أن نلاحظ بانتظام في كل الجرائد الفرنسية ، بشكل متعاقب كل بضعة أيام ، مع بعض التنويعات المرتبطة بموقف كل جريدة على حدة في عالم الجرائــد ، وكما ولو أن الأمر يتعلق بمعجزة ، معاينات وإفادات حول الوضعية الاقتصادية المبهرة للولايات المتحدة وإنجلتـــرا . هذا الضرب من القطرة ـ قطرة الرمزي الذي تساهم فيه النشرات المكتوبة والمتلفزة بصورة كثيفة ــ بشكل لاشعوري في الجزء الأعظم منه لأن غالبية الناس الذين يكررون معطياته يقومون بذلك بشكل برئ ــ يُحدث تأثيرات عميقة الغور ، وهكذا ، وفي نهاية المطاف تقدم الليبرالية الجديدة ذاتها تحت يافطة ما لا يمكن تحاشيه وما ليس منه بد .
ما يتعلق الأمر به هنا هو مجموع من الافتراضات يتم فرضها باعتبارها تنطلق من ذاتها : حيث يتم الاعتراف بأن النمو الأقصى ، وإذن الإنتاجية والمنافسة ، هما الحد النهائي والأوحد للنشاطات البشرية ؛ الحد الذي لا يمكن عنده مقاومة القوى الاقتصادية ، أو أيضا ، وهو افتراض يؤسس كل افتراضات الاقتصاد ، عنده يتم إحداث قطيعة راديكالية في ما بين ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي ، هذا المتروك على الهامش والمتخلى عنه للسوسيولوجيين كشكل من أشكال البقايا والمهملات . افتراض مهم آخر يتمثل في المعجم اللغوي الذي يجثم علينا ، القاموس الذي نمتصه حالما نفتح جريدة ما ، حالما نستمع لمحطة إذاعية ، والمصنوع في جوهره من نزعة تلطيف الكلام .
إنني للأسف لا أمتلك مثالا يونانيا ، لكنني أعتقد بأنكم لن تجدوا عناء في العثور عليه . على سبيل المثال بفرنسا لم نعد ننطق أبدا كلمة " الباطرونا " ، إذ نقول بدل ذلك " القوى الحية للأمة " ؛ و لا نتحدث عن عمليات طرد من العمل ، وإنما عن " dégraissage " إزالة الشحم والترهل باستخدام مماثلة رياضية ( فجسم قوي صلد لا بد أن يكون نحيفا ) . وللإعلان عن أن مقاولة ستوظف 2000 شخصا فإن الحديث سيدور عن " برنامج اجتماعي جرئ تنجزه شركة ألكاتيل " . هناك أيضا لعبة بكاملها من المعاني الضمنية والترابطات في ما بين كلمات مثل مرونة ، ليونة وطواعية وخروج عن المألوف التي تنحو نحو جعلنا نعتقد أن الرسالة الليبرالية الجديدة رسالة للتحرير كونية النزعة .
يتوجب في ما يبدو لي أن ندافع عن أنفسنا ضد هذه الدوكسا بإخضاعها للتحليل ومحاولة فهم ميكانيزماتها التي أنتجت وفرضت بها . لكن ذلك لا يكفي ولو أنه في غاية الأهمية ، إلا انه يمكننا أن نقابلها بعدد معين من المعاينات الأمبريقية . في حالة فرنسا ، شرعت الدولة في التخلي عن عدد معين من ميادين العمل الاجتماعي . النتيجة هي كم هائل من الآلام من جميع الأصناف والألوان لم يمسس فقط الأشخاص الذين ألم بهم الفقر المدقع وحدهم . ويمكننا أن نبين أن في جذر المشاكل الملاحظة في ضواحي المدن الكبرى سياسة ليبرالية جديدة للسكن أحدثت بتطبيقها في السبعينيات ( المساعدة " للفرد " ) ميزا اجتماعيا ببروليتاريته السفلى من جهة ، المكونة في جانب هام منها من المهاجرين ، والتي ظلت في كبريات المجموعات جماعية ، ومن جهة أخرى بالعمال الدائمين الحائزين لأجر قار والبورجوازية الصغرى اللذين يشكلان مكونا من مكونات هذه الطبقة في منازل فردية صغيرة اشتروها بقروض أحدثت لديهم إكراهات كبرى . إن هذه القطيعة الاجتماعية تم إقرارها بواسطة إجراء سياسي .
بالولايات المتحدة نشهد ازدواجية للدولة ، دولة تؤمن من جهة ضمانات اجتماعية ، لكن بالنسبة للمحظوظين المطمئنين كفاية بتأمينات وضمانات ، ودولة قمعية بوليسية بالنسبة للشعب . إن ولاية كاليفورنيا ، وهي إحدى أغنى ولايات الولايات المتحدة ــ وقد اعتبرت في لحظة معينة من قبل بعض السوسيولوجيين الفرنسيين جنة لكل الحريات ــ وأكثرها محافظة أيضــــا ، ولاية متمتعة بجامعة هي بدون شك من أكبر الجامعات في العالم ، وميزانية السجون بها هي أعلى منذ سنة 1994 من ميزانية كل الجامعات مجتمعة . في هذه الولاية لم يعرف سود غيتو شيكاغو من الدولة إلا رجل الأمن ، القاضي ، حارس السجن و le parol officier الناطق الرسمي ؛ أي ضابط تنفيذ العقوبات الذي يتوجب الحضور أمامه دائما بانتظام تحت طائلة العودة إلى السجن . إننا هنا بحضرة ضرب من ضروب إنجاز حلم المهيمنين ؛ دولة تتقلص كما أوضح ذلك لويك فاكانت أكثر فأكثر ويتم اختزالها إلى حد ممارسة وظيفتها البوليسية وحدها .
إن ما نراه بالولايات المتحدة وما ترتسم خطوطه الكبرى بأوربا هو سيرورة الانحطاط . عندما ندرس ميلاد الدولة في المجتمعات التي تشكلت لديها قبل غيرها كفرنسا وإنجلترا نلاحظ أولا تمركزا للقوة الفيزيائية وتمركزا للقوة الاقتصادية ـ الإثنان ينطلقان كزوج ؛ فلابد من المال للقدرة على خوض الحروب وللقدرة على ممارسة المهمة البوليسية . . الخ ، و لا بد من وجود قوة البوليس للقدرة على استخلاص الأموال . ثم لدينا تمركز للرأسمال الثقافي ، ثم تمركز للسلطة . إن هذه الدولة بالإيقاع الذي تتقدم به تحوز الاستقلال الذاتي وتضحي جزئيا مستقلة عن القوة الاجتماعية والاقتصادية المهيمنة . وتشرع الدولة في التحول نحو أن تصبح قادرة على تشويه إرادات المهيمن عليهم وتأويلها والإيحاء بالسياسات وإملائها أحيانا .
إن سيرورة نكوص الدولة تجعلنا نرى أن مقاومة عقيدة وسياسة الليبراليين الجدد هي أقوى بكثير في البلدان التي كانت فيها التقاليد الدولتية أقوى وأعمق ، وهذا يفسر بكون الدولة وجدت بصيغتين أو شكلين : وجدت في الواقع الموضوعي على صورة مجموع من المؤسسات كمؤسسات التنظيم والتقنين والمكاتب والوزارات . . الخ ، ووجدت في الأذهان أيضا ، فمثلا في حضن البيروقراطية الفرنسية غداة إصلاح تمويل السكن صارعت الوزارات الاجتماعية الوزارات المالية للدفاع عن السياسة الاجتماعية في مجال السكن . لقد كانت لهؤلاء الموظفين مصلحة في الدفاع عن وزاراتهم ومواقعهم ، ولكن أيضا لأنهم كانوا يؤمنون بها ولأنهم كانوا يدافعون عن قناعاتهم . إن الدولة في كل البلدان هي في جانب معين العلامة الواقعية للفتوحات الاجتماعية ، إن وزارة الشغل هي على سبيل المثال فتح اجتماعي تحول إلى واقع ، حتى إذا كان يمكن أن تكون في بعض الظروف والملابسات أيضا أداة قمع . والدولة توجد أيضا في أذهان الشغالين على صورة الحق الذاتي ( " هذا حقي " ، " لا يمكن أن تعاملوني هكذا " ) ، على صورة التشبث ب " المكتسبات الاجتماعية " . . الخ . مثلا ، أحد أكبر الاختلافات في ما بين فرنسا وإنجلترا يتمثل في كون الإنجليز المتتشرين ( نسبة للسيدة تاتشر ) اكتشفوا أنهم لم يقاوموا بالشكل الذي كان بإمكانهم أن يقاوموا في جزئهم الأعظم لأن عقدة الشغل كانت عقدة ودية Common Low وليس كما هو الشأن في فرنسا اتفاقا مضمونا من طرف الدولة . واليوم بشكل مفارق ، وفي اللحظة التي يتم فيها بأوربا القارية مدح النموذج الإنجليزي ، في اللحظة ذاتها ينظر الشغالون الإنجليز إلى القارة فيكتشفون أنها توفر أشياء لا يوفرها لهم تقليدهم العمالي ، أي حق وقانون الشغل .
إن الدولة في الحقيقة واقع ملتبس . ولكن يمكن الاكتفاء بالقول إنها أداة في خدمة المهيمِنين . ليست الدولة بدون شك محايدة كليا ، مستقلة كليا عن المهيمنين ، لكن لها استقلالا ذاتيا هو من الكبر بقدر ما هو عريق ، بقدر ما أنها أقوى وأنها سجلت مدوِّنةً في بنياتها فتوحات اجتماعية أكثر أهمية . . الخ . إنها فضاء الصراعات ( على سبيل المثال في ما بين الوزارات المالية والوزارات المستهلِكة المكلفة بالمشاكل الاجتماعية ) . ولمقاومة انحطاط الدولة ؛ أي مقاومة نكوص الدولة وتراجعها صوب أن تصير دولة عقابية مكلفة بالقمع ومضحية رويدا رويدا بالوظائف الاجتماعية ؛ التعليم ، الصحة ، المساعدة . . الخ ، تستطيع الحركة الاجتماعية أن تجد دعما من لدن المسؤولين عن الملفات الاجتماعية المكلفين بتقديم المساعدة للعاطلين لمدة طويلة ، الذين يقلقون من القطائع التي تلحق التماسك الاجتماعي ومن البطالة . . الخ والذين يعترضون على رجال المال الذين لا يريدون الاعتراف إلا بإكراهات " الشمولية " ومكانة فرنسا في العالم .
لقد تحدثت عن " الشمولية " ، وهي أسطورة بالمعنى التام للكلمة ، خطاب قوي ، " فكرة ـ قوة " ، فكرة لها قوة اجتماعيــة ، فكرة استطاعت جعل الناس يؤمنون بها ؛ إنها السلاح المركزي في الصراع ضد مكتسبات Welfar State : فالشغالون الأوربيون ، كما يقال ، عليهم أن يعادوا الشغالين الأقل حظوة في بقية مجموع العالم ، ويُقدَّمُ للشغالين في هذا الإطار مثال البلدان التي يعتبر الأجر الأدنى بها غير موجود إطلاقا ، وحيث يشتغل العمال 12 ساعة يوميا مقابل أجور تتراوح ما بين ¼ و 1/15 من الأجر الأوربي ، وحيث لا وجود للنقابات ، وحيث يتم تشغيل الأطفال . . الخ . وباسم مثال أو نموذج كهذا يتم فرض المرونة ، وهي كلمة /مفتاح آخر لليبرالية ؛ أي العمل الليلي والعمل في نهاية الأسبوع ( أيام العطل ) وساعات العمل غير المنتظمة ، وكثير من الأشياء المرسومة منذ الأبد في أحلام الباطرونا . وبشكل عام فإن الليبرالية الجديدة تستعيد من خلال المظاهر الخارجية لرسالة أكثر تأنقا وأكثر حداثة أكثر الأفكار قدما لأقدم أصناف الباطرونا ، ( وقد عرضت مجلات بالولايات المتحدة لائحة هؤلاء الباطرونات المثيرين الذين صُنِّفوا ورتبوا ، كما هو شأن أجورهم بالدولار ، تبعا لعدد الأشخاص الذين كانت لديهم شجاعة تسريحهم من أعمالهم ) . تلك سمة خاصة بالثورات المحافظة ، ثورات الثلاثينيات بألمانيا ، وثورات أتباع تاتشر ، ريغان وآخرين ، تتمثل في تقديم الإصلاحات باعتبارها ثورات . وتتخذ الثورة المحافظة اليوم شكلا غير مسبوق : ولا يتعلق الأمر ، كما في أوقات سابقة ، باستدعاء ماض مؤمثل عبر الإشادة بالأرض والدم ، وهي الموضوعات المهجورة للميثولوجيات الأرضية القديمة . إن هذه الثورة المحافظة من النمط الجديد تطالب بالتقدم ، بالعقل وبالعلم ( الاقتصاد بالمناسبة ) لتبرير الإصلاح ، وتحاول أن تحيل على النسيان الفكر والنشاط التقدميان . إنها تؤسسُ على شكل معايير لكل النشاطات العملية ، وإذن على شكل قواعد مثالية الانتظامات الحقيقية للعالم الاقتصادي المتروك لمنطقه ، للقانون المسمى سوقًا ، أي قانون الأقوى . إنها تقر وتنتصر لسيادة ما يسمى الأسواق المالية ؛ أي عودةً لنوع من الرأسمالية الجذرية بدون أي قانون آخر ما عدا قانون الربح الأقصى ، رأسمالية بدون فرامل ولا مساحيق ، وإنما هي معقلنة ومدفوعة إلى حدود فعاليتها الاقتصادية عبر إدماج الصيغ الحديثة للهيمنة كالتسيير الإداري وتقنيات المعالجة كالبحث عن الأسواق ، الماركيتينغ والإشهار التجاري .
وإذا كان من الممكن لهذه الثورة المحافظة أن تخدعنا ، فلأنه لم يعد لها ظاهريا شيء من الغابة ـ السوداء البدوية القديمة للثوريين المحافظين زمن الثلاثينيات ؛ إنها تتزين بكل علامات ومساحيق الحداثة . ألم تأت من شيكاغو ؟ ..منذ قال جاليلي إن عالم الطبيعة مكتوب بلغة رياضية ؟ … اليوم يراد التمكن من جعلنا نعتقد أن العالم الاقتصادي والاجتماعي هو الذي يصاغ على شكل معادلات ، وأنه بالتسلح بالرياضيات ( والسلطة الإعلامية ) أصبحت النيوليبرالية الشكل الأعلى والأقصى ل sociodicée للتبرير النظري المحافظ التي يعلن عن ذاته منذ ثلاثين سنة تحت عنوان " نهاية الإيديولوجيات " ، أو بشكل أكثر قربا زمنيا تحت عنوان " نهاية التاريخ " .
من أجل مقاومة أسطورة " العولمة " التي تتحدد وظيفتها الأساس في جعلنا نقبل إصلاحا يعيد بعث الروح في ما كان، ينجز عودة لرأسمالية متوحشة ، لكنها معقلنة و لاأخلاقية ؛ تعتبر العودة للوقائع واجبة . وإذا ما ألقينا نظرة على الإحصائيات فإننا سنلاحظ أن المنافسة التي يتحملها الشغالون الأوربيون هي في جوهرها ما بين ـ أوربية . وحسب المصادر التي أستعملها فإن % 70 من المبادلات الاقتصادية للأمم الأوربية تقوم مع بلدان أوربية أخرى . وبإلقاء وتسليط الضوء على التهديد الخارج ـ أوربي تم إخفاء أن الخطر المركزي يتشكل من خلال المنافسة الداخلية للبلدان الأوربية وما يسمى أحيانا الإغراق الاجتماعي le sociale dumping : تستطيع البلدان الأوربية ذات الحماية الاجتماعية الضعيفة والأجور المنخفضة أن تستفيد من مزاياها في إطار المنافسة ، لكن بجر بلدان أخرى نحو القاع ، هذه البلدان المكرهة أيضا ، من أجل ضمان البقاء ، على التخلي عن المكتسبات الاجتماعية ، وهو ما يستلزم أنه للإفلات من هذه الدوامة الحلزونية ، فإن لشغالي البلدان المتقدمة مصلحة في الانضمام لشغالي البلدان الأقل تقدما من أجل الحفاظ على مكتسباتهم ومن اجل إنجاح تعميمها على كل الشغالين الأوربيين ( وهو ما ليس هينا بفعل الاختلافات في مجال التقاليد الوطنية ، وبالخصوص في وزن النقابات بالمقارنة مع الدولة وفي مجال أنماط تمويل الحماية الاجتماعية ) .
لكن هذا ليس كل شيء ؛ هناك أيضا تأثيرات السياسة النيوليبرالية التي يمكن لكل واحد منا أن يعاني منها . وهكذا ، فإن عددا معينا من البحوث الإنجليزية أوضحت أن السياسة التاتشرية تطلبت غيابا كبيرا للإحساس بالأمان وشعورا بخطر محدق وكاسح ، أولا لدى الشغالين اليدويين ، ولكن أيضا في أوساط البورجوازية الصغيرة . ويلاحظ بالضبط نفس الشيء بالولايات المتحدة حيث نجدنا بحضرة تعدد لمناصب الشغل المؤقتة والمتدنية الأجر ( والتي تخفض بشكل مصطنع معدل البطالة ) . إن الطبقات الأمريكية الوسطى التي يجثم عليها التهديد بالتسريح المفاجئ تعرف انعداما رهيبا للأمان ( وتجعلنا بذلك نكتشف أن المهم في منصب شغل ليس هو العمل والأجر فقط اللذين يوفرهما وإنما الأمان والطمأنينة اللذين يضمنهما ) . إن نسبة الشغالين المؤقتين في كل البلدان تتعاظم بالمقارنة مع الساكنة العاملة الرسمية والدائمة . إن الهشاشة ، أي جعل العمل هشا ومرنا تؤدي إلى فقدان المزايا الضعيفة ( الموصوفة غالبا بكونها امتيازات ل " الفقراء " ) التي من شأنها أن تعوض الأجور الضعيفة ؛ كالعمل الدائم وضمانات الصحة والتقاعد . وتقود الخوصصة من جهتها نحو فقدان المكتسبات الاجتماعية ؛ في حالة فرنسا على سبيل المثال ¾ من الشغالين المستخدمين حديثا تم تشغيلهم بصفة مؤقتة ، والربع فقط من الـ ¾ هذه سيتحولون إلى شغالين دائمين . وبديهي أن هؤلاء الشغالين الجدد هم شباب ، وهو ما يجعل أن انعدام الأمان هذا يضرب أول ما يضرب فئة الشباب ، يحدث ذلك بفرنسا ــ ( وقد عاينا ذلك أيضا في كتابنا بؤس العالم ) وبإنجلترا أيضا حيث الرهاب لدى الشباب يصل إلى القمة ، إلى جانب نتائج وتبعات كالانحلال والإجرام وظواهر أخرى جد مكلفة .
لهذا ينضاف اليوم تدمير القواعد الاقتصادية والاجتماعية للمكتسبات الإنسانية الناذرة . إن الاستقلال الذاتي لعوالم الإنتاج الثقافي إزاء السوق الذي لم يتوقف عن التعاظم بفضل صراعات وتضحيات كتاب وفنانين وعلماء هو اليوم مهدد أكثر فاكثر . إن سيادة " التجارة " و " التجاري " تفرض ذاتها كل يوم أكثر على الأدب ، خصوصا عبر تمركز أكبر يتم إخضاعه مباشرة أكثر فاكثر لإكراهات الربح الفوري ، كما تفرض هذه السيادة ذاتها على النقد الأدبي والفني المتروكين لأكبر خدام مجال النشر انتهازية ــ أو للمتواطئين معهم عبر عمليات التسريح بواسطة المصاعد ــ وعلى السينما خاصة ( ويمكننا أن نتساءل عن ما سيتبقى خلال عشر سنوات من سينما للبحث الأوربي إذا لم يتم فعل أي شيء من أجل تمكين المنتجين الطليعيين من وسائل الإنتاج وخصوصا ربما من وسائل التوزيع ) ، بدون أن نتحدث عن العلوم الاجتماعية المحكوم عليها بالخضوع الاستعبادي للتعاليم التي تخدم المصالح المباشرة لبيروقراطيات المقاولات أو الدولة أو تلك الناجمة عن موت مراقبة السلطات التي يحل محلها المال أو ذوي المصالح الانتهازية .
وإذا كانت الشمولية قبل كل شيء أسطورة للتبرير ، فهناك حالة تعتبر فيها واقعية تماما ، وهي حالة الأسواق المالية ؛ فبفضل خفوت عدد معين من أشكال المراقبة القانونية وتحسن وسائل الاتصال الحديثة التي تقود نحو انخفاض كلفة الاتصال ، فإن التوجه الآن هو توجه نحو سوق مالية موحدة ، وهو ما لا يعني أنها منسجمة . وهذه السوق المالية مهيمن عليها من طرف اقتصادات معينة ؛ أي من طرف البلدان الأغنى ، وبخاصة البلدان التي تستعمل عملتها كعملة احتياط عالمية ، تلك التي تستحوذ تبعا لذلك بداخل هذه الأسواق المالية على هامش حرية أرحب . إن السوق المالي حقل يحتل فيه المهيمنون ؛ أي الولايات المتحدة في هذه الحالة الخاصة ، موقعا هو من النفاذ بحيث يتمكن هؤلاء المهيمنون من تحديد قواعد لعب هذه الأسواق في جانبها الأعظم . إن هذا التوحيد للأسواق المالية حول عدد معين من الأمم الحائزة لموقع الهيمنة يحدث إقلالا من الاستقلال الذاتي للأسواق المالية الوطنية . إن رجال المال الفرنسيين ومفتشي المالية الذين يقولون لنا بأنه يتوجب الخنوع والخضوع للضرورة ، ينسون أن يخبرونا بأنهم شركاء هذه الضرورة وبأن الدولة الوطنية الفرنسية هي التي تستقيل من مهامها عبرهم وبواسطتهم .
وباختصار ، فليست الشمولية تحقيقا للتجانس ، وإنما هي على العكس من ذلك امتداد لنفوذ وسلطان عدد صغير من الأمم المهيمنة على مجموع المواقع المالية الوطنية (في الأوطان ) . وينتج عن ذلك إعادة تحديد جزئية لتقسيم العمل الدولي يتحمل الشغالون الأوربيون نتائجها ، إلى جانب تحويل الرساميل والصناعات على سبيل المثال نحو البلدان ذات اليد العاملة الرخيصـة . إن سوق رأس المال العالمي هذه تنحو نحو الإنقاص من الاستقلال الذاتي لأسواق الرأسمال الوطني ، ونحو فرض الحظر بشكل خاص على التحكم من طرف الدول الوطنية في معدلات الصرف ونسب الفائدة التي يتم تحديدها أكثر فأكثر من قبل سلطة ممركزة في أيدي عدد قليل من البلدان . إن السلطات الوطنية معرضة لخطر هجمات المضاربة من قبل وكالات مزودة بأموال طائلة قادرة على إحداث إنقاص في قيمة العملة ، وحكومات اليسار هي بداهة مهددة بشكل خاص ، وذلك لأنها تستثير حذر وريبة الأسواق المالية ( إن حكومة يمين تمارس سياسة متطابقة نسبيا مع مُثل صندوق النقد الدولي FMI معرضة لخطر أقل من حكومة يسارية حتى ولو مارست سياسة متطابقة تماما مع مثل هذا الصندوق ) . إن بنية الحقل العالمي هي التي تمارس إكراها بنيويا ، وهو ما يضفي على الميكانيزمات مظهرا قدريا ، والسياسة الخاصة لدولة ما هي محددة بشكل واسع من قبل وضعيتها بداخل بنية توزيع الرأسمال المالي ( الذي يحدد بنية الحقل الاقتصادي العالمي ) .
فما الذي يمكن فعله في حضرة هذه الميكانيزمات ؟ .. يتوجب التفكير أولا في الحدود الضمنية والمستترة التي تقبلها النظرية الاقتصادية ، والنظرية الاقتصادية لا تأخذ في الحسبان ، في إطار تقدير تكاليف سياسة ما ، ما ندعوه التكاليف الاجتماعية . إن السياسة السكنية التي قررها جيسكار ديستانغ على سبيل المثال سنة 1970 استلزمت تكاليف اجتماعية على المدى الطويل لم تبد مظهريا حتى كذلك ، وذلك لأننا لا نجد ، باستثناء السوسيولوجيين ، من يتذكر ذلك بعد عشرين سنة من هذا الإجراء . فمن يتذكر ذلك ؟ .. ومن أعاد ربط فتنة سنة 1990 بضاحية من ضواحي ليون بقرار سياسي يعود لسنة 1970 ؟ .. إن الجرائم تظل بدون عقاب لأن النسيان يقبرها . يتوجب أن تلح كل القوى الاجتماعية النقدية على عدم الفصل والتهميش في الحسابات الاقتصادية للتكاليف الاجتماعية للقرارات الاقتصادية . كم سيكلف ذلك على المدى الطويل من فساد وآلام وأمراض وحالات انتحار وإغراق في الكحول واستهلاك للمخدرات ، ومن عنف بداخل الأسر . . الخ . وكثير من الأشياء التي تكلف غاليا ماليا ومعاناة وآلاما أيضا ؟ .. اعتقد أنه يجب ، حتى ولو بدا ذلك لاأخلاقيا بالمرة ، أن نقلب ضد الاقتصاد المهيمن أسلحته الخاصة ذاتها ، وأن نتذكر أن السياسة المحض اقتصادية ليست بالضرورة بداخل منطق الربح المتضمن فيها طبعا اقتصادية ــ في مجال أمن الأشخاص والممتلكات ، وإذن في مجال التمدن والتحضر . . الخ . وبدقة أكبر يتوجب أن نضع موضع التساؤل بشكل جذري المنظور الاقتصادي الذي يفردن كل شيء ، الإنتاج كما العدالة أو الصحة ، التكاليف كما الأرباح ، والذي ينسى أن الفعالية التي يمنحها تعريفا ضيقا ومجردا بجعلها تُماهي ضمنيا المردودية المالية ، تتوقف بطبيعة الحال وبداهة على غايات يتم قياسها ، مردودية مالية بالنسبة للمساهمين والمستثمرين كما هو الحال اليوم ، أو إشباعا وإرضاء للزبناء والمستعملين ، أو بشكل واسع إشباعا ومتع حياة للمنتجين والمستهلكين ، وهكذا من جيب إلى جيب آخر لأكبر عدد ممكن . في مواجهة هذا الاقتصاد الضيق والقصير النظر ، يجب أن نقيم " اقتصادا للسعادة " يأخذ علما بجميع الأرباح ، فردية كانت أم جماعية ، مادية أم رمزية مرتبطة بالنشاط (كالأمان مثلا ) ، وأيضا بكل التكاليف المادية والرمزية المرتبطة بالعطالة وانعدام النشاط أو الموسمية ( مثلا، استهلاك الأدوية : حيث تحقق فرنسا رقما قياسيا في استهلاك المهدئات ) . لا يمكننا أن نتحايل على " قانون الحماية من العنف " : فكل عنف يُؤدَّى ثمنه ؛ العنف البنيوي الذي تمارسه الأسواق المالية على سبيل المثال بأشكال من الفساد والخلاعة والموسمية ، نجد مقابله على المدى الطويل نسبيا على صورة انتحارات و انحرافات ، جرائم ومخدرات ، إغراقا في الكحول وأشكال عنف يومية كبيرة كانت أم صغيرة .
يجب على الصراعات النقدية لدى المثقفين والنقابات والجمعيات ، في الحالة الراهنة ، أن تتصدى كأولوية لذبول وتحلل الدولة ؛ فالدول الوطنية ملغومة من الخارج من قبل القوى المالية ، وهي ملغومة من الداخل من قبل أولئك الذين يجعلون من أنفسهم شركاء متواطئين مع هذه القوى المالية ؛ أي رجال المال وكبار موظفي المالية . . الخ . وأعتقد أن للمهيمن عليهم مصلحة في الدفاع عن الدولة ، الدفاع بالخصوص عن بعدها الاجتماعي . و لا يتم استلهام هذا الدفاع عن الدولة من النزعة الوطنية . وإذا كان من الممكن مصارعة الدولة الوطنية ، فإن الدفاع عن الوظائف " الكونية " التي تؤديها ، والتي يمكن أن تتم تأديتها ربما بشكل أفضل من طرف دولة فوق ـ وطنية . وإذا كان لا يراد أن يكون البونديسبانك هو الذي يحكم السياسات المالية لمختلف الدول عبر معدل الفائدة ، فهلا يتوجب الصراع من أجل بناء دولة فوق ـ وطنية مستقلة ذاتيا نسبيا بالمقارنة مع القوى الاقتصادية العالمية والقوى السياسية الوطنية ، وقادرة على تنمية البعد الاجتماعي للمؤسسات الأوربية ؟ .. فلن تأخذ على سبيل المثال الإجراءات المستهدِفة للإنقاص من مدة الشغل كامل معناها إلا إذا تم اتخاذها من طرف مؤسسة أوربية وكانت قابلة للانسحاب على مجموع الأمم الأوربية .
لقد كانت الدولة تاريخيا قوة للعقلنة ، لكنها وضعت في خدمة القوى المهيمنة . ولتحاشي أن تكون كذلك لم يكن كافيا التمرد على تكنوقراطيي بروكسيل . لقد توجب ابتكار أممية جديدة ، على الأقل على المستوى الجهوي لأوربا ، استطاعت أن توفر بديلا للنكوص الوطني الذي هدد بفعل الأزمة ، قليلا أو بما فيه الكفاية ، كل البلدان الأوربية . لقد تعلق الأمر ببناء مؤسسات من شأنها أن تكون قادرة على مراقبة وضبط قوى السوق المالي ذاك ، وإقرار ما يعبر عنه الألمان بلفظة عجيبة هي regrezionsverbot ، أي إقرار تحريم للنكوص والتراجع عن المكتسبات الاجتماعية على المستوى الأوربي . ولهذا الغرض ، فمما لا يمكن التخلي أو التقاعس عنه هو أن تتحرك المنظمات النقابية فاعلة على هذا المستوى الفوق ـ وطني ؛ وذلك لأن القوى التي تحاربها تتحرك في هذا المجال . إذن ، فمحاولة خلق القواعد التنظيمية لأممية نقدية حقيقية قادرة على الاعتراض الحقيقي على النيوليبيرالية هي محاولة واجبة ولا مناص منها .
نقطة أخيرة وهي : لماذا نجد المثقفين غامضين بخصوص كل هذا ؟ .. إنني لا أنوي إعادة تناول المسألة لأن ذلك سيحتاج لوقت طويل وسيكون عملا وحشيا تعداد جميع صور الاستقالة ، أو ما هو أفظع من ذلك ، جميع صور التواطؤ . سأستدعي فقط مناظرات الفلاسفة الذين نعتوا أنفسهم بالحداثيين أو ما بعد الحداثيين ؛ أولئك الذين عندما لا يكتفون بترك الحبل على الغارب للأمور وهي تجري ، ينشغلون بكونهم ، بفعل لعبهم المدرسي ، ينغلقون بداخل عمل دفاعي لفظي للعقل وللحوار العقلاني ، أو أفدح من ذلك ، يقترحون تنويعا يسمى ما بعد الحداثة ، هو بالفعل " جذرية متأنقة " لإيديولوجية نهاية الإيديولوجيات ، إلى جانب إدانة روايات الوقائع الكبرى أو التشهير العدمي بالعلم .
وبالفعل ، فإن قوة الإيديولوجية النيوليبيرالية تتمثل في كونها تستند إلى ضرب من ضروب الداروينية الاجتماعية الجديدة : ف " أفضل الناس وأكثرهم ذكاء " هم الذين ينتصرون كما يقال بهارفارد ( بيكر ، جائزة نوبل في الاقتصاد : طور الفكرة التي مؤداها أن النزعة الداروينية هي أساس الكفاية في الحساب العقلاني التي تعيرها لرجال الاقتصاد ) . خلف النظرة العالمية النزعة لأممية المهيمنين هناك فلسفة للكفاءة حسبها يعتبر أن من يحكم هم أكثر الناس كفاءة ، وهم الذين يحوزون عملا ، وهو ما يلزم عنه أن أولئك الذين ليس لديهم عمل هم أناس غير أكفاء . هناك الناجحون les winners ، وهناك الفاشلون les losers ، هناك النبالة ؛ وهي ما أسميه نبالة الدولة ؛ أي هؤلاء الأشخاص الذين تتجمع لديهم كل خصائص النبالة بالمعنى القروسطي للفظ ، والذين يدينون بسلطتهم لتربيتهم وتعليمهم ؛ أي يدينون من وجهة نظرهم للذكاء المتصور هنا كما لو كان هبة من السماء ، وهو الذي نعرف عنه أنه يوزع في الواقع من طرف المجتمع ، كما نعرف أن أشكال التفاوت في الذكاء هي أشكال تفاوت اجتماعية . إن إيديولوجيا الكفاءة صالحة تماما لتبرير تعارض يشبه قليلا تعارض السادة والعبيد : من جهة بمواطنين كاملي المواطنة ، يتمتعون بكفاءات ومناشط جد ناذرة وباهظة الأجر ، هم في مستوى اختيار مشغليهم ( في حين أن الآخرين يُختارون من طرف مشغليهم في أفضل الحالات ) ، وهم في مستوى الحصول على أكبر مدخول في سوق الشغل العالمي ، وهم مشغولون بالزائد رجالا ونساء( وقد قرأت دراسة إنجليزية جد رائعة حول هؤلاء الأزواج من الأطر المجانين الذين يقطعون العالم طولا وعرضا وينطون من طائرة لأخرى وينعمون بمداخيل تصيب بالهلوسة والدوار ، مداخيل لا يحلمون حتى بصرفها خلال أربع حيوات . . الخ ) ثم ، ومن جهة أخرى ، حشد من البشر منذور لمناصب شغل مؤقتة أو للبطالة .
لقد قال ماكس فيبر إن المهيمنين هم في حاجة دائما ل " théodicé مزاياهم " أي تبريرها إلهيا ( أي اعتبار الفوارق بين الناس راجعة لعدالة إلهية لا تقبل المراجعة ـ المترجم ) أو أفضل من ذلك هم في حاجة ل sociodicé هذه الامتيازات ، أي لتبرير نظري لواقع أنهم محظوظون . إن الكفاءة اليوم توجد في قلب هذه ال sociodicé المقبولة بطبيعة الحال من طرف المهيمنين ـ فتلك مصلحتهم ـ ولكنها مقبولة أيضا من طرف الآخرين . في خضم فقر المقصيين من الشغل ، في خضم بؤس العاطلين لمدة طويلة ، هناك شيء زائد عما كان في الماضي . إن الإيديولوجية الأنجلو ـ ساكسونية الموسومة بالوعظية دائما بعض الشيء ، تميز الفقراء اللاأخلاقيين عن les deserving-poor ــ الفقراء المستحقين ـ الذين تجوز فيهم الصدقة . لهذا التبرير الأخلاقي جاء لينضاف أو ينوب تبرير ثقافي ( فكري ) ؛ فليس الفقراء فقط لاأخلاقيين ، متعاطيي كحول وفاسدين ؛ إنهم أغبياء وغير أذكياء أيضا . في خضم المعاناة الاجتماعية يتدخل في جزئه الأعظم فقر العلاقة بالمدرسة الذي لا يرسم فقط المصائر الاجتماعية وإنما أيضا الصورة التي يكونها الناس عن هذا المصير ( وهو ما يساهم بدون شك في تفسير ما نسميه انفعالية ـ أو مفعولية ـ المهيمن عليهم وصعوبة تعبئتهم . . الخ ) . لقد كان لأفلاطون منظور للعالم الاجتماعي يشبه منظور تكنوقراطيينا ، فهذا العالم مكون من الفلاسفة والحراس ثم الشعب . وهذه الفلسفة مدونة ومندرجة ، في حالتها الضمنية ، في النظام المدرسي . وبوصفه جد قوي فهو مستوعب ومستبطن بشكل جد عميق . لماذا انتقلنا من المثقف الملتزم إلى المثقف " المستقيل " ؟ .. جزئيا لأن المثقفين ممسكون بالرأسمال الثقافي ، ولأنهم ولو أنهم مهيمن عليهم ضمن المهيمنين ، فهم جزء من المهيمنين ؛ ذاك أحد أسس اجتماع الضدين فيهم وأحد أسس التزامهم الملطف في خضم الصراعات . إنهم يساهمون بشكل غير واضح في إيديولوجيا الكفاءة هاته ، وعندما يثورون ، فإن ذلك يشبه مرة أخرى ما حدث سنة 1933 بألمانيا ، وذلك لأنهم يقدرون أنهم لن يحصلوا على ما يستحقونه بالنظر لكفاءتهم المضمونة من طرف ديبلوماتهم .
أثينا ، أكتوبر 1996 .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الشطط السلطوي المبرر بالعقل
بـقـلـــم : بيير بورديو
جاء من أعماق البلدان الإسلامية سؤال في غاية العمق يخص النزعة الكونية الغربية المغلوطة ؛ أي ما أدعوه النزعة الإمبريالية للكوني . لقد كانت فرنسا تجسيدا بامتياز لهذه النزعة الإمبريالية التي استحثت هنا ، في هذا البلد بالذات ، نزعة شعبوية وطنية مرتبطة في نظري ارتباطا وثيقا بإسم هيردر . وإذا كان صحيحا أن نزعة كونية معينة ليست إلا نزعة وطنية تستدعي الكوني ( حقوق الإنسان . . الخ ) من أجل فرض ذاتها ، فسيصبح من الصعوبة بمكان أن نصف بالرجعية أي رد فعل أصولي النزعة ضدها . إن العقلانية العلموية ؛ أي عقلانية النماذج الرياضية التي تستوحي سياسة صندوق النقد الدولي FMI أو البنك العالمي ، سياسة Law firms كبريات الشركات المتعددة الجنسيات القانونية التي تفرض تقاليد القانون الأمريكي على مجموع البسيطة ، أي سياسة نظريات الفعل العقلاني . . الخ ، إن هذه العقلانية هي في نفس الآن تعبير وضمانة لعجرفة مونوبول غربي ، تقود إلى الفعل كما لو أن بعض الناس يمتلكون العقل بشكل مطلق ويحتكرونه ، ويمكنهم أن يجعلوا من أنفسهم ، كما نقول عادة ، دركيي العالم ؛ أي مالكين وممسكين معلن عنهم ذاتيا بمونوبول العنف المشروع ، القادر على وضع قوة الأسلحة في خدمة العدالة الكونية . إن العنف الإرهابي ، عبر لاعقلانية اليأس التي ينزرع بداخلها تقريبا دوما ، يحيل على العنف المتسم بالعطالة لدى السلطات التي تتحجج بالعقل . إن القهر الاقتصادي يتزيا غالبا بالأسباب القانونية ، وتغطي الإمبريالية ذاتها بمشروعية المؤسسات الدولية ، وعن طريق نفاق ضروب العقلنة ذاتها المخصصة لوضع قناع على معاييرها المزدوجة ، فإنها تنحو لدى الشعوب العربية ، الأمريكية الجنوبية والإفريقية وفي حضنها نحو إحداث أو تبرير ثورة جد عميقة ضد العقل الذي لا يمكن فصله عن ضروب وألوان الشطط في السلطة التي تتسلح وتستصدر التراخيص من العقل ( الاقتصادي ـ العلمي أو غيرهما ) . إن هذه الأشكال من " اللاعقلانية " التي هي في جزء منها نتاج عقلانيتنا وإمبرياليتنا مجتاحة غازية أو ضعيفة ، ضيقة الأفق ، دفاعية نكوصية وقمعية حسب الأمكنة والأزمنة . إن الأمر يتعلق مرة أخرى بالدفاع عن العقل أكثر من أن يتعلق بمصارعة أولئك الذين يخفون خلف مظاهر العقل ضروب شططهم في استعمال السلطة أو الذين يستغلون أسلحة العقل من أجل ترسيخ أو تبرير إمبراطورية اعتباطية وتعسفية .
فرانكفورت ، أكتوبر 1995 .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أسطورة " العولمة " والدولة الاجتماعية الأوربية
بـقـلـــم : بيير بورديو
نسمع اليوم كلاما يقال في كل مكان ، ــ وذاك هو ما يشكل قوة هذا الخطاب المهيمن ــ ، مفاده أن لا شيء يمكن أن يقف موقف المعارض للمنظور النيوليبرالي الذي نجح في أن يقدم نفسه كمنظور بديهي لا بديل له أو عنه . وإذا كان لهذا المنظور كل هذا الانتشار ، فلأن هنالك مجهودا بكامله للغرس والترسيخ الرمزي ساهم فيه بفعالية كل من الصحافيين أو المواطنين العاديين ، وخاصة وبنشاط ، عدد معين من المثقفين . ضد هذه السيطرة المفروضة دوما ، المخاتلة والمخادعة ، والتي تنتج عن طريق التشرب والاختراق اعتقادا حقيقيا ، يبدو لي أن للباحثين دورا يلعبونه في هذا الإطار ؛ فهم يستطيعون أولا تحليل كيفية إنتاج وتغلغل هذا الخطاب : وهنالك انشغال متزايد أكثر فأكثر بإنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا بالوصف الدقيق للإجراءات التي يتم وفقها إنتاج وترويج هذه النظرة للعالم ، وعن طريق سلسلة من التحاليل التي تنسحب في نفس الآن على النصوص والمجلات التي تم نشر هذا الخطاب وفرضه بها رويدا رويدا باعتباره مشروعا ، وكذا عبر الخصائص المميزة لكتابها واللقاءات التي يجتمع من خلالها هؤلاء الأخيرون من أجل إنتاجه . . الخ ، فإن هذه الأشغال أوضحت ، بإنجلترا وفرنسا ، كيف تم إنجاز عمل دائم أشرك لهذا الغرض مثقفين ، صحافيين ورجال أعمال ، من أجل فرض منظور نيو ليبرالي يبدو كما لو أنه ينطلق من ذاته ، منظور يُلبِس من حيث الجوهر العقلنات الاقتصادية الافتراضات الأكثر كلاسيكية للفكر المحافظ لكل الأزمنة ولكل البلدان . إنني أعني بهذا دراسة حول دور مجلة Preuves تم ترويجها ، وهي الممولة من طرف الـ CIA ، من طرف كبار المثقفين الفرنسيين ، والتي خلال ما بين 20 إلى 25 سنة ــ إذ يحتاج الأمر إلى وقت حتى تتحول بعض الأشياء الخاطئة إلى أشياء سليمة ــ أنتجت بدون هوادة ، وضد التيار في البداية ، أفكارا تحولت رويدا رويدا إلى أفكار واضحة . ونفس الشيء حدث بإنجلترا ؛ فالنزعة التاتشرية لم تعرف ميلادها مع السيدة تاتشر ، بل تم إعدادها منذ مدة طويلة من طرف جماعات من المثقفين الذين كانت لديهم ، في غالبيتهم ، منابر بكبريات الجرائد. وأول مساهمة كانت ممكنة للباحثين تمثلت في العمل على نشر هذه التحليلات بصيغ يمكن للجميع الوصول إليها والاطلاع عليهــا .
إن عملية فرض هذه الأفكار التي ابتدأت منذ مدة طويلة لا زالت مستمرة إلى اليوم ؛ فيمكننا أن نلاحظ بانتظام في كل الجرائد الفرنسية ، بشكل متعاقب كل بضعة أيام ، مع بعض التنويعات المرتبطة بموقف كل جريدة على حدة في عالم الجرائــد ، وكما ولو أن الأمر يتعلق بمعجزة ، معاينات وإفادات حول الوضعية الاقتصادية المبهرة للولايات المتحدة وإنجلتـــرا . هذا الضرب من القطرة ـ قطرة الرمزي الذي تساهم فيه النشرات المكتوبة والمتلفزة بصورة كثيفة ــ بشكل لاشعوري في الجزء الأعظم منه لأن غالبية الناس الذين يكررون معطياته يقومون بذلك بشكل برئ ــ يُحدث تأثيرات عميقة الغور ، وهكذا ، وفي نهاية المطاف تقدم الليبرالية الجديدة ذاتها تحت يافطة ما لا يمكن تحاشيه وما ليس منه بد .
ما يتعلق الأمر به هنا هو مجموع من الافتراضات يتم فرضها باعتبارها تنطلق من ذاتها : حيث يتم الاعتراف بأن النمو الأقصى ، وإذن الإنتاجية والمنافسة ، هما الحد النهائي والأوحد للنشاطات البشرية ؛ الحد الذي لا يمكن عنده مقاومة القوى الاقتصادية ، أو أيضا ، وهو افتراض يؤسس كل افتراضات الاقتصاد ، عنده يتم إحداث قطيعة راديكالية في ما بين ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي ، هذا المتروك على الهامش والمتخلى عنه للسوسيولوجيين كشكل من أشكال البقايا والمهملات . افتراض مهم آخر يتمثل في المعجم اللغوي الذي يجثم علينا ، القاموس الذي نمتصه حالما نفتح جريدة ما ، حالما نستمع لمحطة إذاعية ، والمصنوع في جوهره من نزعة تلطيف الكلام .
إنني للأسف لا أمتلك مثالا يونانيا ، لكنني أعتقد بأنكم لن تجدوا عناء في العثور عليه . على سبيل المثال بفرنسا لم نعد ننطق أبدا كلمة " الباطرونا " ، إذ نقول بدل ذلك " القوى الحية للأمة " ؛ و لا نتحدث عن عمليات طرد من العمل ، وإنما عن " dégraissage " إزالة الشحم والترهل باستخدام مماثلة رياضية ( فجسم قوي صلد لا بد أن يكون نحيفا ) . وللإعلان عن أن مقاولة ستوظف 2000 شخصا فإن الحديث سيدور عن " برنامج اجتماعي جرئ تنجزه شركة ألكاتيل " . هناك أيضا لعبة بكاملها من المعاني الضمنية والترابطات في ما بين كلمات مثل مرونة ، ليونة وطواعية وخروج عن المألوف التي تنحو نحو جعلنا نعتقد أن الرسالة الليبرالية الجديدة رسالة للتحرير كونية النزعة .
يتوجب في ما يبدو لي أن ندافع عن أنفسنا ضد هذه الدوكسا بإخضاعها للتحليل ومحاولة فهم ميكانيزماتها التي أنتجت وفرضت بها . لكن ذلك لا يكفي ولو أنه في غاية الأهمية ، إلا انه يمكننا أن نقابلها بعدد معين من المعاينات الأمبريقية . في حالة فرنسا ، شرعت الدولة في التخلي عن عدد معين من ميادين العمل الاجتماعي . النتيجة هي كم هائل من الآلام من جميع الأصناف والألوان لم يمسس فقط الأشخاص الذين ألم بهم الفقر المدقع وحدهم . ويمكننا أن نبين أن في جذر المشاكل الملاحظة في ضواحي المدن الكبرى سياسة ليبرالية جديدة للسكن أحدثت بتطبيقها في السبعينيات ( المساعدة " للفرد " ) ميزا اجتماعيا ببروليتاريته السفلى من جهة ، المكونة في جانب هام منها من المهاجرين ، والتي ظلت في كبريات المجموعات جماعية ، ومن جهة أخرى بالعمال الدائمين الحائزين لأجر قار والبورجوازية الصغرى اللذين يشكلان مكونا من مكونات هذه الطبقة في منازل فردية صغيرة اشتروها بقروض أحدثت لديهم إكراهات كبرى . إن هذه القطيعة الاجتماعية تم إقرارها بواسطة إجراء سياسي .
بالولايات المتحدة نشهد ازدواجية للدولة ، دولة تؤمن من جهة ضمانات اجتماعية ، لكن بالنسبة للمحظوظين المطمئنين كفاية بتأمينات وضمانات ، ودولة قمعية بوليسية بالنسبة للشعب . إن ولاية كاليفورنيا ، وهي إحدى أغنى ولايات الولايات المتحدة ــ وقد اعتبرت في لحظة معينة من قبل بعض السوسيولوجيين الفرنسيين جنة لكل الحريات ــ وأكثرها محافظة أيضــــا ، ولاية متمتعة بجامعة هي بدون شك من أكبر الجامعات في العالم ، وميزانية السجون بها هي أعلى منذ سنة 1994 من ميزانية كل الجامعات مجتمعة . في هذه الولاية لم يعرف سود غيتو شيكاغو من الدولة إلا رجل الأمن ، القاضي ، حارس السجن و le parol officier الناطق الرسمي ؛ أي ضابط تنفيذ العقوبات الذي يتوجب الحضور أمامه دائما بانتظام تحت طائلة العودة إلى السجن . إننا هنا بحضرة ضرب من ضروب إنجاز حلم المهيمنين ؛ دولة تتقلص كما أوضح ذلك لويك فاكانت أكثر فأكثر ويتم اختزالها إلى حد ممارسة وظيفتها البوليسية وحدها .
إن ما نراه بالولايات المتحدة وما ترتسم خطوطه الكبرى بأوربا هو سيرورة الانحطاط . عندما ندرس ميلاد الدولة في المجتمعات التي تشكلت لديها قبل غيرها كفرنسا وإنجلترا نلاحظ أولا تمركزا للقوة الفيزيائية وتمركزا للقوة الاقتصادية ـ الإثنان ينطلقان كزوج ؛ فلابد من المال للقدرة على خوض الحروب وللقدرة على ممارسة المهمة البوليسية . . الخ ، و لا بد من وجود قوة البوليس للقدرة على استخلاص الأموال . ثم لدينا تمركز للرأسمال الثقافي ، ثم تمركز للسلطة . إن هذه الدولة بالإيقاع الذي تتقدم به تحوز الاستقلال الذاتي وتضحي جزئيا مستقلة عن القوة الاجتماعية والاقتصادية المهيمنة . وتشرع الدولة في التحول نحو أن تصبح قادرة على تشويه إرادات المهيمن عليهم وتأويلها والإيحاء بالسياسات وإملائها أحيانا .
إن سيرورة نكوص الدولة تجعلنا نرى أن مقاومة عقيدة وسياسة الليبراليين الجدد هي أقوى بكثير في البلدان التي كانت فيها التقاليد الدولتية أقوى وأعمق ، وهذا يفسر بكون الدولة وجدت بصيغتين أو شكلين : وجدت في الواقع الموضوعي على صورة مجموع من المؤسسات كمؤسسات التنظيم والتقنين والمكاتب والوزارات . . الخ ، ووجدت في الأذهان أيضا ، فمثلا في حضن البيروقراطية الفرنسية غداة إصلاح تمويل السكن صارعت الوزارات الاجتماعية الوزارات المالية للدفاع عن السياسة الاجتماعية في مجال السكن . لقد كانت لهؤلاء الموظفين مصلحة في الدفاع عن وزاراتهم ومواقعهم ، ولكن أيضا لأنهم كانوا يؤمنون بها ولأنهم كانوا يدافعون عن قناعاتهم . إن الدولة في كل البلدان هي في جانب معين العلامة الواقعية للفتوحات الاجتماعية ، إن وزارة الشغل هي على سبيل المثال فتح اجتماعي تحول إلى واقع ، حتى إذا كان يمكن أن تكون في بعض الظروف والملابسات أيضا أداة قمع . والدولة توجد أيضا في أذهان الشغالين على صورة الحق الذاتي ( " هذا حقي " ، " لا يمكن أن تعاملوني هكذا " ) ، على صورة التشبث ب " المكتسبات الاجتماعية " . . الخ . مثلا ، أحد أكبر الاختلافات في ما بين فرنسا وإنجلترا يتمثل في كون الإنجليز المتتشرين ( نسبة للسيدة تاتشر ) اكتشفوا أنهم لم يقاوموا بالشكل الذي كان بإمكانهم أن يقاوموا في جزئهم الأعظم لأن عقدة الشغل كانت عقدة ودية Common Low وليس كما هو الشأن في فرنسا اتفاقا مضمونا من طرف الدولة . واليوم بشكل مفارق ، وفي اللحظة التي يتم فيها بأوربا القارية مدح النموذج الإنجليزي ، في اللحظة ذاتها ينظر الشغالون الإنجليز إلى القارة فيكتشفون أنها توفر أشياء لا يوفرها لهم تقليدهم العمالي ، أي حق وقانون الشغل .
إن الدولة في الحقيقة واقع ملتبس . ولكن يمكن الاكتفاء بالقول إنها أداة في خدمة المهيمِنين . ليست الدولة بدون شك محايدة كليا ، مستقلة كليا عن المهيمنين ، لكن لها استقلالا ذاتيا هو من الكبر بقدر ما هو عريق ، بقدر ما أنها أقوى وأنها سجلت مدوِّنةً في بنياتها فتوحات اجتماعية أكثر أهمية . . الخ . إنها فضاء الصراعات ( على سبيل المثال في ما بين الوزارات المالية والوزارات المستهلِكة المكلفة بالمشاكل الاجتماعية ) . ولمقاومة انحطاط الدولة ؛ أي مقاومة نكوص الدولة وتراجعها صوب أن تصير دولة عقابية مكلفة بالقمع ومضحية رويدا رويدا بالوظائف الاجتماعية ؛ التعليم ، الصحة ، المساعدة . . الخ ، تستطيع الحركة الاجتماعية أن تجد دعما من لدن المسؤولين عن الملفات الاجتماعية المكلفين بتقديم المساعدة للعاطلين لمدة طويلة ، الذين يقلقون من القطائع التي تلحق التماسك الاجتماعي ومن البطالة . . الخ والذين يعترضون على رجال المال الذين لا يريدون الاعتراف إلا بإكراهات " الشمولية " ومكانة فرنسا في العالم .
لقد تحدثت عن " الشمولية " ، وهي أسطورة بالمعنى التام للكلمة ، خطاب قوي ، " فكرة ـ قوة " ، فكرة لها قوة اجتماعيــة ، فكرة استطاعت جعل الناس يؤمنون بها ؛ إنها السلاح المركزي في الصراع ضد مكتسبات Welfar State : فالشغالون الأوربيون ، كما يقال ، عليهم أن يعادوا الشغالين الأقل حظوة في بقية مجموع العالم ، ويُقدَّمُ للشغالين في هذا الإطار مثال البلدان التي يعتبر الأجر الأدنى بها غير موجود إطلاقا ، وحيث يشتغل العمال 12 ساعة يوميا مقابل أجور تتراوح ما بين ¼ و 1/15 من الأجر الأوربي ، وحيث لا وجود للنقابات ، وحيث يتم تشغيل الأطفال . . الخ . وباسم مثال أو نموذج كهذا يتم فرض المرونة ، وهي كلمة /مفتاح آخر لليبرالية ؛ أي العمل الليلي والعمل في نهاية الأسبوع ( أيام العطل ) وساعات العمل غير المنتظمة ، وكثير من الأشياء المرسومة منذ الأبد في أحلام الباطرونا . وبشكل عام فإن الليبرالية الجديدة تستعيد من خلال المظاهر الخارجية لرسالة أكثر تأنقا وأكثر حداثة أكثر الأفكار قدما لأقدم أصناف الباطرونا ، ( وقد عرضت مجلات بالولايات المتحدة لائحة هؤلاء الباطرونات المثيرين الذين صُنِّفوا ورتبوا ، كما هو شأن أجورهم بالدولار ، تبعا لعدد الأشخاص الذين كانت لديهم شجاعة تسريحهم من أعمالهم ) . تلك سمة خاصة بالثورات المحافظة ، ثورات الثلاثينيات بألمانيا ، وثورات أتباع تاتشر ، ريغان وآخرين ، تتمثل في تقديم الإصلاحات باعتبارها ثورات . وتتخذ الثورة المحافظة اليوم شكلا غير مسبوق : ولا يتعلق الأمر ، كما في أوقات سابقة ، باستدعاء ماض مؤمثل عبر الإشادة بالأرض والدم ، وهي الموضوعات المهجورة للميثولوجيات الأرضية القديمة . إن هذه الثورة المحافظة من النمط الجديد تطالب بالتقدم ، بالعقل وبالعلم ( الاقتصاد بالمناسبة ) لتبرير الإصلاح ، وتحاول أن تحيل على النسيان الفكر والنشاط التقدميان . إنها تؤسسُ على شكل معايير لكل النشاطات العملية ، وإذن على شكل قواعد مثالية الانتظامات الحقيقية للعالم الاقتصادي المتروك لمنطقه ، للقانون المسمى سوقًا ، أي قانون الأقوى . إنها تقر وتنتصر لسيادة ما يسمى الأسواق المالية ؛ أي عودةً لنوع من الرأسمالية الجذرية بدون أي قانون آخر ما عدا قانون الربح الأقصى ، رأسمالية بدون فرامل ولا مساحيق ، وإنما هي معقلنة ومدفوعة إلى حدود فعاليتها الاقتصادية عبر إدماج الصيغ الحديثة للهيمنة كالتسيير الإداري وتقنيات المعالجة كالبحث عن الأسواق ، الماركيتينغ والإشهار التجاري .
وإذا كان من الممكن لهذه الثورة المحافظة أن تخدعنا ، فلأنه لم يعد لها ظاهريا شيء من الغابة ـ السوداء البدوية القديمة للثوريين المحافظين زمن الثلاثينيات ؛ إنها تتزين بكل علامات ومساحيق الحداثة . ألم تأت من شيكاغو ؟ ..منذ قال جاليلي إن عالم الطبيعة مكتوب بلغة رياضية ؟ … اليوم يراد التمكن من جعلنا نعتقد أن العالم الاقتصادي والاجتماعي هو الذي يصاغ على شكل معادلات ، وأنه بالتسلح بالرياضيات ( والسلطة الإعلامية ) أصبحت النيوليبرالية الشكل الأعلى والأقصى ل sociodicée للتبرير النظري المحافظ التي يعلن عن ذاته منذ ثلاثين سنة تحت عنوان " نهاية الإيديولوجيات " ، أو بشكل أكثر قربا زمنيا تحت عنوان " نهاية التاريخ " .
من أجل مقاومة أسطورة " العولمة " التي تتحدد وظيفتها الأساس في جعلنا نقبل إصلاحا يعيد بعث الروح في ما كان، ينجز عودة لرأسمالية متوحشة ، لكنها معقلنة و لاأخلاقية ؛ تعتبر العودة للوقائع واجبة . وإذا ما ألقينا نظرة على الإحصائيات فإننا سنلاحظ أن المنافسة التي يتحملها الشغالون الأوربيون هي في جوهرها ما بين ـ أوربية . وحسب المصادر التي أستعملها فإن % 70 من المبادلات الاقتصادية للأمم الأوربية تقوم مع بلدان أوربية أخرى . وبإلقاء وتسليط الضوء على التهديد الخارج ـ أوربي تم إخفاء أن الخطر المركزي يتشكل من خلال المنافسة الداخلية للبلدان الأوربية وما يسمى أحيانا الإغراق الاجتماعي le sociale dumping : تستطيع البلدان الأوربية ذات الحماية الاجتماعية الضعيفة والأجور المنخفضة أن تستفيد من مزاياها في إطار المنافسة ، لكن بجر بلدان أخرى نحو القاع ، هذه البلدان المكرهة أيضا ، من أجل ضمان البقاء ، على التخلي عن المكتسبات الاجتماعية ، وهو ما يستلزم أنه للإفلات من هذه الدوامة الحلزونية ، فإن لشغالي البلدان المتقدمة مصلحة في الانضمام لشغالي البلدان الأقل تقدما من أجل الحفاظ على مكتسباتهم ومن اجل إنجاح تعميمها على كل الشغالين الأوربيين ( وهو ما ليس هينا بفعل الاختلافات في مجال التقاليد الوطنية ، وبالخصوص في وزن النقابات بالمقارنة مع الدولة وفي مجال أنماط تمويل الحماية الاجتماعية ) .
لكن هذا ليس كل شيء ؛ هناك أيضا تأثيرات السياسة النيوليبرالية التي يمكن لكل واحد منا أن يعاني منها . وهكذا ، فإن عددا معينا من البحوث الإنجليزية أوضحت أن السياسة التاتشرية تطلبت غيابا كبيرا للإحساس بالأمان وشعورا بخطر محدق وكاسح ، أولا لدى الشغالين اليدويين ، ولكن أيضا في أوساط البورجوازية الصغيرة . ويلاحظ بالضبط نفس الشيء بالولايات المتحدة حيث نجدنا بحضرة تعدد لمناصب الشغل المؤقتة والمتدنية الأجر ( والتي تخفض بشكل مصطنع معدل البطالة ) . إن الطبقات الأمريكية الوسطى التي يجثم عليها التهديد بالتسريح المفاجئ تعرف انعداما رهيبا للأمان ( وتجعلنا بذلك نكتشف أن المهم في منصب شغل ليس هو العمل والأجر فقط اللذين يوفرهما وإنما الأمان والطمأنينة اللذين يضمنهما ) . إن نسبة الشغالين المؤقتين في كل البلدان تتعاظم بالمقارنة مع الساكنة العاملة الرسمية والدائمة . إن الهشاشة ، أي جعل العمل هشا ومرنا تؤدي إلى فقدان المزايا الضعيفة ( الموصوفة غالبا بكونها امتيازات ل " الفقراء " ) التي من شأنها أن تعوض الأجور الضعيفة ؛ كالعمل الدائم وضمانات الصحة والتقاعد . وتقود الخوصصة من جهتها نحو فقدان المكتسبات الاجتماعية ؛ في حالة فرنسا على سبيل المثال ¾ من الشغالين المستخدمين حديثا تم تشغيلهم بصفة مؤقتة ، والربع فقط من الـ ¾ هذه سيتحولون إلى شغالين دائمين . وبديهي أن هؤلاء الشغالين الجدد هم شباب ، وهو ما يجعل أن انعدام الأمان هذا يضرب أول ما يضرب فئة الشباب ، يحدث ذلك بفرنسا ــ ( وقد عاينا ذلك أيضا في كتابنا بؤس العالم ) وبإنجلترا أيضا حيث الرهاب لدى الشباب يصل إلى القمة ، إلى جانب نتائج وتبعات كالانحلال والإجرام وظواهر أخرى جد مكلفة .
لهذا ينضاف اليوم تدمير القواعد الاقتصادية والاجتماعية للمكتسبات الإنسانية الناذرة . إن الاستقلال الذاتي لعوالم الإنتاج الثقافي إزاء السوق الذي لم يتوقف عن التعاظم بفضل صراعات وتضحيات كتاب وفنانين وعلماء هو اليوم مهدد أكثر فاكثر . إن سيادة " التجارة " و " التجاري " تفرض ذاتها كل يوم أكثر على الأدب ، خصوصا عبر تمركز أكبر يتم إخضاعه مباشرة أكثر فاكثر لإكراهات الربح الفوري ، كما تفرض هذه السيادة ذاتها على النقد الأدبي والفني المتروكين لأكبر خدام مجال النشر انتهازية ــ أو للمتواطئين معهم عبر عمليات التسريح بواسطة المصاعد ــ وعلى السينما خاصة ( ويمكننا أن نتساءل عن ما سيتبقى خلال عشر سنوات من سينما للبحث الأوربي إذا لم يتم فعل أي شيء من أجل تمكين المنتجين الطليعيين من وسائل الإنتاج وخصوصا ربما من وسائل التوزيع ) ، بدون أن نتحدث عن العلوم الاجتماعية المحكوم عليها بالخضوع الاستعبادي للتعاليم التي تخدم المصالح المباشرة لبيروقراطيات المقاولات أو الدولة أو تلك الناجمة عن موت مراقبة السلطات التي يحل محلها المال أو ذوي المصالح الانتهازية .
وإذا كانت الشمولية قبل كل شيء أسطورة للتبرير ، فهناك حالة تعتبر فيها واقعية تماما ، وهي حالة الأسواق المالية ؛ فبفضل خفوت عدد معين من أشكال المراقبة القانونية وتحسن وسائل الاتصال الحديثة التي تقود نحو انخفاض كلفة الاتصال ، فإن التوجه الآن هو توجه نحو سوق مالية موحدة ، وهو ما لا يعني أنها منسجمة . وهذه السوق المالية مهيمن عليها من طرف اقتصادات معينة ؛ أي من طرف البلدان الأغنى ، وبخاصة البلدان التي تستعمل عملتها كعملة احتياط عالمية ، تلك التي تستحوذ تبعا لذلك بداخل هذه الأسواق المالية على هامش حرية أرحب . إن السوق المالي حقل يحتل فيه المهيمنون ؛ أي الولايات المتحدة في هذه الحالة الخاصة ، موقعا هو من النفاذ بحيث يتمكن هؤلاء المهيمنون من تحديد قواعد لعب هذه الأسواق في جانبها الأعظم . إن هذا التوحيد للأسواق المالية حول عدد معين من الأمم الحائزة لموقع الهيمنة يحدث إقلالا من الاستقلال الذاتي للأسواق المالية الوطنية . إن رجال المال الفرنسيين ومفتشي المالية الذين يقولون لنا بأنه يتوجب الخنوع والخضوع للضرورة ، ينسون أن يخبرونا بأنهم شركاء هذه الضرورة وبأن الدولة الوطنية الفرنسية هي التي تستقيل من مهامها عبرهم وبواسطتهم .
وباختصار ، فليست الشمولية تحقيقا للتجانس ، وإنما هي على العكس من ذلك امتداد لنفوذ وسلطان عدد صغير من الأمم المهيمنة على مجموع المواقع المالية الوطنية (في الأوطان ) . وينتج عن ذلك إعادة تحديد جزئية لتقسيم العمل الدولي يتحمل الشغالون الأوربيون نتائجها ، إلى جانب تحويل الرساميل والصناعات على سبيل المثال نحو البلدان ذات اليد العاملة الرخيصـة . إن سوق رأس المال العالمي هذه تنحو نحو الإنقاص من الاستقلال الذاتي لأسواق الرأسمال الوطني ، ونحو فرض الحظر بشكل خاص على التحكم من طرف الدول الوطنية في معدلات الصرف ونسب الفائدة التي يتم تحديدها أكثر فأكثر من قبل سلطة ممركزة في أيدي عدد قليل من البلدان . إن السلطات الوطنية معرضة لخطر هجمات المضاربة من قبل وكالات مزودة بأموال طائلة قادرة على إحداث إنقاص في قيمة العملة ، وحكومات اليسار هي بداهة مهددة بشكل خاص ، وذلك لأنها تستثير حذر وريبة الأسواق المالية ( إن حكومة يمين تمارس سياسة متطابقة نسبيا مع مُثل صندوق النقد الدولي FMI معرضة لخطر أقل من حكومة يسارية حتى ولو مارست سياسة متطابقة تماما مع مثل هذا الصندوق ) . إن بنية الحقل العالمي هي التي تمارس إكراها بنيويا ، وهو ما يضفي على الميكانيزمات مظهرا قدريا ، والسياسة الخاصة لدولة ما هي محددة بشكل واسع من قبل وضعيتها بداخل بنية توزيع الرأسمال المالي ( الذي يحدد بنية الحقل الاقتصادي العالمي ) .
فما الذي يمكن فعله في حضرة هذه الميكانيزمات ؟ .. يتوجب التفكير أولا في الحدود الضمنية والمستترة التي تقبلها النظرية الاقتصادية ، والنظرية الاقتصادية لا تأخذ في الحسبان ، في إطار تقدير تكاليف سياسة ما ، ما ندعوه التكاليف الاجتماعية . إن السياسة السكنية التي قررها جيسكار ديستانغ على سبيل المثال سنة 1970 استلزمت تكاليف اجتماعية على المدى الطويل لم تبد مظهريا حتى كذلك ، وذلك لأننا لا نجد ، باستثناء السوسيولوجيين ، من يتذكر ذلك بعد عشرين سنة من هذا الإجراء . فمن يتذكر ذلك ؟ .. ومن أعاد ربط فتنة سنة 1990 بضاحية من ضواحي ليون بقرار سياسي يعود لسنة 1970 ؟ .. إن الجرائم تظل بدون عقاب لأن النسيان يقبرها . يتوجب أن تلح كل القوى الاجتماعية النقدية على عدم الفصل والتهميش في الحسابات الاقتصادية للتكاليف الاجتماعية للقرارات الاقتصادية . كم سيكلف ذلك على المدى الطويل من فساد وآلام وأمراض وحالات انتحار وإغراق في الكحول واستهلاك للمخدرات ، ومن عنف بداخل الأسر . . الخ . وكثير من الأشياء التي تكلف غاليا ماليا ومعاناة وآلاما أيضا ؟ .. اعتقد أنه يجب ، حتى ولو بدا ذلك لاأخلاقيا بالمرة ، أن نقلب ضد الاقتصاد المهيمن أسلحته الخاصة ذاتها ، وأن نتذكر أن السياسة المحض اقتصادية ليست بالضرورة بداخل منطق الربح المتضمن فيها طبعا اقتصادية ــ في مجال أمن الأشخاص والممتلكات ، وإذن في مجال التمدن والتحضر . . الخ . وبدقة أكبر يتوجب أن نضع موضع التساؤل بشكل جذري المنظور الاقتصادي الذي يفردن كل شيء ، الإنتاج كما العدالة أو الصحة ، التكاليف كما الأرباح ، والذي ينسى أن الفعالية التي يمنحها تعريفا ضيقا ومجردا بجعلها تُماهي ضمنيا المردودية المالية ، تتوقف بطبيعة الحال وبداهة على غايات يتم قياسها ، مردودية مالية بالنسبة للمساهمين والمستثمرين كما هو الحال اليوم ، أو إشباعا وإرضاء للزبناء والمستعملين ، أو بشكل واسع إشباعا ومتع حياة للمنتجين والمستهلكين ، وهكذا من جيب إلى جيب آخر لأكبر عدد ممكن . في مواجهة هذا الاقتصاد الضيق والقصير النظر ، يجب أن نقيم " اقتصادا للسعادة " يأخذ علما بجميع الأرباح ، فردية كانت أم جماعية ، مادية أم رمزية مرتبطة بالنشاط (كالأمان مثلا ) ، وأيضا بكل التكاليف المادية والرمزية المرتبطة بالعطالة وانعدام النشاط أو الموسمية ( مثلا، استهلاك الأدوية : حيث تحقق فرنسا رقما قياسيا في استهلاك المهدئات ) . لا يمكننا أن نتحايل على " قانون الحماية من العنف " : فكل عنف يُؤدَّى ثمنه ؛ العنف البنيوي الذي تمارسه الأسواق المالية على سبيل المثال بأشكال من الفساد والخلاعة والموسمية ، نجد مقابله على المدى الطويل نسبيا على صورة انتحارات و انحرافات ، جرائم ومخدرات ، إغراقا في الكحول وأشكال عنف يومية كبيرة كانت أم صغيرة .
يجب على الصراعات النقدية لدى المثقفين والنقابات والجمعيات ، في الحالة الراهنة ، أن تتصدى كأولوية لذبول وتحلل الدولة ؛ فالدول الوطنية ملغومة من الخارج من قبل القوى المالية ، وهي ملغومة من الداخل من قبل أولئك الذين يجعلون من أنفسهم شركاء متواطئين مع هذه القوى المالية ؛ أي رجال المال وكبار موظفي المالية . . الخ . وأعتقد أن للمهيمن عليهم مصلحة في الدفاع عن الدولة ، الدفاع بالخصوص عن بعدها الاجتماعي . و لا يتم استلهام هذا الدفاع عن الدولة من النزعة الوطنية . وإذا كان من الممكن مصارعة الدولة الوطنية ، فإن الدفاع عن الوظائف " الكونية " التي تؤديها ، والتي يمكن أن تتم تأديتها ربما بشكل أفضل من طرف دولة فوق ـ وطنية . وإذا كان لا يراد أن يكون البونديسبانك هو الذي يحكم السياسات المالية لمختلف الدول عبر معدل الفائدة ، فهلا يتوجب الصراع من أجل بناء دولة فوق ـ وطنية مستقلة ذاتيا نسبيا بالمقارنة مع القوى الاقتصادية العالمية والقوى السياسية الوطنية ، وقادرة على تنمية البعد الاجتماعي للمؤسسات الأوربية ؟ .. فلن تأخذ على سبيل المثال الإجراءات المستهدِفة للإنقاص من مدة الشغل كامل معناها إلا إذا تم اتخاذها من طرف مؤسسة أوربية وكانت قابلة للانسحاب على مجموع الأمم الأوربية .
لقد كانت الدولة تاريخيا قوة للعقلنة ، لكنها وضعت في خدمة القوى المهيمنة . ولتحاشي أن تكون كذلك لم يكن كافيا التمرد على تكنوقراطيي بروكسيل . لقد توجب ابتكار أممية جديدة ، على الأقل على المستوى الجهوي لأوربا ، استطاعت أن توفر بديلا للنكوص الوطني الذي هدد بفعل الأزمة ، قليلا أو بما فيه الكفاية ، كل البلدان الأوربية . لقد تعلق الأمر ببناء مؤسسات من شأنها أن تكون قادرة على مراقبة وضبط قوى السوق المالي ذاك ، وإقرار ما يعبر عنه الألمان بلفظة عجيبة هي regrezionsverbot ، أي إقرار تحريم للنكوص والتراجع عن المكتسبات الاجتماعية على المستوى الأوربي . ولهذا الغرض ، فمما لا يمكن التخلي أو التقاعس عنه هو أن تتحرك المنظمات النقابية فاعلة على هذا المستوى الفوق ـ وطني ؛ وذلك لأن القوى التي تحاربها تتحرك في هذا المجال . إذن ، فمحاولة خلق القواعد التنظيمية لأممية نقدية حقيقية قادرة على الاعتراض الحقيقي على النيوليبيرالية هي محاولة واجبة ولا مناص منها .
نقطة أخيرة وهي : لماذا نجد المثقفين غامضين بخصوص كل هذا ؟ .. إنني لا أنوي إعادة تناول المسألة لأن ذلك سيحتاج لوقت طويل وسيكون عملا وحشيا تعداد جميع صور الاستقالة ، أو ما هو أفظع من ذلك ، جميع صور التواطؤ . سأستدعي فقط مناظرات الفلاسفة الذين نعتوا أنفسهم بالحداثيين أو ما بعد الحداثيين ؛ أولئك الذين عندما لا يكتفون بترك الحبل على الغارب للأمور وهي تجري ، ينشغلون بكونهم ، بفعل لعبهم المدرسي ، ينغلقون بداخل عمل دفاعي لفظي للعقل وللحوار العقلاني ، أو أفدح من ذلك ، يقترحون تنويعا يسمى ما بعد الحداثة ، هو بالفعل " جذرية متأنقة " لإيديولوجية نهاية الإيديولوجيات ، إلى جانب إدانة روايات الوقائع الكبرى أو التشهير العدمي بالعلم .
وبالفعل ، فإن قوة الإيديولوجية النيوليبيرالية تتمثل في كونها تستند إلى ضرب من ضروب الداروينية الاجتماعية الجديدة : ف " أفضل الناس وأكثرهم ذكاء " هم الذين ينتصرون كما يقال بهارفارد ( بيكر ، جائزة نوبل في الاقتصاد : طور الفكرة التي مؤداها أن النزعة الداروينية هي أساس الكفاية في الحساب العقلاني التي تعيرها لرجال الاقتصاد ) . خلف النظرة العالمية النزعة لأممية المهيمنين هناك فلسفة للكفاءة حسبها يعتبر أن من يحكم هم أكثر الناس كفاءة ، وهم الذين يحوزون عملا ، وهو ما يلزم عنه أن أولئك الذين ليس لديهم عمل هم أناس غير أكفاء . هناك الناجحون les winners ، وهناك الفاشلون les losers ، هناك النبالة ؛ وهي ما أسميه نبالة الدولة ؛ أي هؤلاء الأشخاص الذين تتجمع لديهم كل خصائص النبالة بالمعنى القروسطي للفظ ، والذين يدينون بسلطتهم لتربيتهم وتعليمهم ؛ أي يدينون من وجهة نظرهم للذكاء المتصور هنا كما لو كان هبة من السماء ، وهو الذي نعرف عنه أنه يوزع في الواقع من طرف المجتمع ، كما نعرف أن أشكال التفاوت في الذكاء هي أشكال تفاوت اجتماعية . إن إيديولوجيا الكفاءة صالحة تماما لتبرير تعارض يشبه قليلا تعارض السادة والعبيد : من جهة بمواطنين كاملي المواطنة ، يتمتعون بكفاءات ومناشط جد ناذرة وباهظة الأجر ، هم في مستوى اختيار مشغليهم ( في حين أن الآخرين يُختارون من طرف مشغليهم في أفضل الحالات ) ، وهم في مستوى الحصول على أكبر مدخول في سوق الشغل العالمي ، وهم مشغولون بالزائد رجالا ونساء( وقد قرأت دراسة إنجليزية جد رائعة حول هؤلاء الأزواج من الأطر المجانين الذين يقطعون العالم طولا وعرضا وينطون من طائرة لأخرى وينعمون بمداخيل تصيب بالهلوسة والدوار ، مداخيل لا يحلمون حتى بصرفها خلال أربع حيوات . . الخ ) ثم ، ومن جهة أخرى ، حشد من البشر منذور لمناصب شغل مؤقتة أو للبطالة .
لقد قال ماكس فيبر إن المهيمنين هم في حاجة دائما ل " théodicé مزاياهم " أي تبريرها إلهيا ( أي اعتبار الفوارق بين الناس راجعة لعدالة إلهية لا تقبل المراجعة ـ المترجم ) أو أفضل من ذلك هم في حاجة ل sociodicé هذه الامتيازات ، أي لتبرير نظري لواقع أنهم محظوظون . إن الكفاءة اليوم توجد في قلب هذه ال sociodicé المقبولة بطبيعة الحال من طرف المهيمنين ـ فتلك مصلحتهم ـ ولكنها مقبولة أيضا من طرف الآخرين . في خضم فقر المقصيين من الشغل ، في خضم بؤس العاطلين لمدة طويلة ، هناك شيء زائد عما كان في الماضي . إن الإيديولوجية الأنجلو ـ ساكسونية الموسومة بالوعظية دائما بعض الشيء ، تميز الفقراء اللاأخلاقيين عن les deserving-poor ــ الفقراء المستحقين ـ الذين تجوز فيهم الصدقة . لهذا التبرير الأخلاقي جاء لينضاف أو ينوب تبرير ثقافي ( فكري ) ؛ فليس الفقراء فقط لاأخلاقيين ، متعاطيي كحول وفاسدين ؛ إنهم أغبياء وغير أذكياء أيضا . في خضم المعاناة الاجتماعية يتدخل في جزئه الأعظم فقر العلاقة بالمدرسة الذي لا يرسم فقط المصائر الاجتماعية وإنما أيضا الصورة التي يكونها الناس عن هذا المصير ( وهو ما يساهم بدون شك في تفسير ما نسميه انفعالية ـ أو مفعولية ـ المهيمن عليهم وصعوبة تعبئتهم . . الخ ) . لقد كان لأفلاطون منظور للعالم الاجتماعي يشبه منظور تكنوقراطيينا ، فهذا العالم مكون من الفلاسفة والحراس ثم الشعب . وهذه الفلسفة مدونة ومندرجة ، في حالتها الضمنية ، في النظام المدرسي . وبوصفه جد قوي فهو مستوعب ومستبطن بشكل جد عميق . لماذا انتقلنا من المثقف الملتزم إلى المثقف " المستقيل " ؟ .. جزئيا لأن المثقفين ممسكون بالرأسمال الثقافي ، ولأنهم ولو أنهم مهيمن عليهم ضمن المهيمنين ، فهم جزء من المهيمنين ؛ ذاك أحد أسس اجتماع الضدين فيهم وأحد أسس التزامهم الملطف في خضم الصراعات . إنهم يساهمون بشكل غير واضح في إيديولوجيا الكفاءة هاته ، وعندما يثورون ، فإن ذلك يشبه مرة أخرى ما حدث سنة 1933 بألمانيا ، وذلك لأنهم يقدرون أنهم لن يحصلوا على ما يستحقونه بالنظر لكفاءتهم المضمونة من طرف ديبلوماتهم .
أثينا ، أكتوبر 1996 .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
عبير الروح- عضو ماسي
-
عدد المساهمات : 29839
نقاط : 115307
تاريخ التسجيل : 09/02/2010
رد: بيير بورديو (اهم مقالته السوسيولجية)
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
ضد تدمير حضارة
أناهنا لكي أعرب عن مساندتي لكل أولئك الذين يُصارعون منذ ثلاثة أسابيع ويقاومون تدمير حضارة مرتبطة بوجود المصالح العمومية ، تلك المتمثلة في المساواة الجمهورية في الحقوق : الحق في التعليم ، الصحة والثقافة ، البحث والفن ، وقبل كل شيء ، الحق في الشغل .
أنا هنا كي أقول إننا نتفهم هذه الحركة العميقة ؛ أي في نفس الآن فقدان الأمل والآمال التي تعبر عن ذاتها هنا ونستشعرها أيضا ؛ لأجل أن نقول إننا لا نفهم ( أو إننا لن نفهم إلا بشكل عميق وزائد ) أولئك الذين لا يتفهمونها كهذا الفيلسوف الذي اكتشف باندهاش من خلال " صحيفة الأحد ليوم 10 ديسمبر ، الهوة القائمة في ما بين التفهم العقلاني للعالم " المشخص حسب رأيه في ألان جوبي ــ وهو يقولها حرفيا ــ ، و " الرغبة العميقة لدى الناس " .
إن هذا التعارض في ما بين الرؤيا على المدى الطويل لدى " أحد أفراد النخبة " المتنورة ونبضات الشعب القصيرة النظر أو نبضات ممثليه هو تعارض مميز للفكر الرجعي في كل الأزمنة والبلدان ، لكنه يتخذ اليوم صيغة جديدة مع نبالة الدولة التي تستمد الإقناع بمشروعيتها من العنوان المدرسي ، ومن سلطة العلم ، والاقتصادي منه خاصة : فليس العقل والحداثة وحدهما بالنسبة لحكام الحق الإلهي الجدد هؤلاء هما من جانب الحكام وإنما الحركة والتغيير أيضا ؛ وزراء وباطرونات أو " خبراء " ؛ واللاعقل والبدائية ، العطالة ونزعة المحافظة هي من جانب الشعب والنقابات والمثقفين النقدييـــن .
إن هذا اليقين التكنوقراطي هو الذي عبر عنه جوبي عندما استكتب نفسه قائلا :╗ أريد أن تكون فرنسا بلدا جديا وبلدا سعيدا س . وهو ما يقبل الترجمة هكذا : ╗ أريد ان يكون الأشخاص الجديون ؛ أي النخبة والنبلاء ، أولئك الذين يعرفون أين توجد سعادة الشعب في مستوى تحقيق سعادة الشعب على الرغم منه ، أي ضدا على إرادته التي أعمتها بالفعل رغائبه التي تحدث عنها الفيلسوف ؛ فالشعب لا يعرف أين تكمن سعادته ــ وبخاصة سعادته في أن يُحكم من طرف أناس كالسيد جوبي ــ يعرفون أين تكمن سعادته أفضل منه س . بهذه الطريقة يفكر التكنوقراطيون وبها يفهمون الديمقراطية . ويُفهم من ذلك أنهم لا يفهمون أن الشعب الذي يدعون أنهم يحكمون باسمه ، ينزل إلى الشارع ــ مفعما بالإحساس بالغبن ! ــ من أجل معارضتهم .
إن نبالة الدولة هاته التي تبشر بذبول الدولة والسيادة بدون شريك للسوق وللمستهلك ، البديل التجاري للمواطن ، أحكمت فبضتها على الدولة وجعلت من المصلحة العامة مصلحة خاصة ، ومن الشأن العمومي ومن الجمهورية شأنها الخاص . وما هو في مهب الريح اليوم هو إعادة الغزو المنتظر أن تباشره الديمقراطية ضد التكنوقراطية : يجب أن نحسم مع طغيان " الخبراء " على شاكلة البنك العالمي أو صندوق النقد الدولي الذين يفرضون بدون جدال قرارات الليفياتان الجديد Léviathan المتمثل في " الأسواق المالية " ، والذين لا ينوون التفاوض بل " الشرح " ؛ يجب أن نقطع مع الإيمان الجديد باللاتحاشية التاريخية التي يجاهر بها منظروا النزعة الليبيرالية ؛ يجب إبداع صيغ جديدة لعمل سياسي جماعي قادر على الفعل في الضرورات ، الاقتصادية منها خاصة ( وتلك يمكن أن تكون مهمة الخبراء ) ، لكن من أجل مصارعتها عند الاقتضاء وتحييدها .
إن الأزمة اليوم هي فرصة تاريخية بالنسبة لفرنسا ، وبدون شك أيضا بالنسبة لكل أولئك الذين يرفضون بأوربا وبأرجاء العالم ، والمتزايد عددهم باستمرار كل يوم ، البديل الجديد المتمثل في الليبيرالية أو الوحشية . سككيون ، بريديون ، رجال تعليم ، مستخدمون بالمصالح العمومية ، طلبة ، وكثير آخرون ملتزمون عبر الفعل أو الانفعال بداخل الحركة طرحوا من خلال مظاهراتهم وتصريحاتهم ، من خلال نقاشاتهم التي لا تحصى ، تلك التي أطلقوا شرارتها والتي يجهد الغطاء الإعلامي نفسه في خنقها وإخمادها بدون جدوى ، المشاكل الأساسية تماما والتي تمنع أهميتها من أن يُترك شأنها لتكنوقراطيين كافيين من حيث العدد أو غير كافيين : فكيف نعيد للمعنيين الأُول الذين هم كل واحد منا التعريف المتنور والمعقول لمستقبل الخدمات العمومية ؛ صحة وتعليما ونقلا . . الخ بترابط خاصة مع أولئك الذين هم معرضون في بلدان أوربا الأخرى لنفس التهديدات والمخاطر ؟ .. كيف السبيل لإعادة إبداع مدرسة الجمهورية ، برفض العودة تدريجيا ، على مستوى التعليم العالي ، لتربية بسرعتين يرمز إليها التعارض في ما بين كبريات المعاهد من جهة والكليات ؟ .. ونفس السؤال يمكن أن يطرح بخصوص الصحة أو النقل . كيف يمكننا مقاومة الهشاشة المهددة لكل مستخدمي المصالح العمومية والتي تتسبب في ألوان من المرهونية والتركيع البشع بشكل خاص في حضن مقاولات التوزيع والنشر الثقافي من راديو وتلفزة أو صحافة بفعل تأثير الرقابة التي تمارسها هذه المقاولات ، أو حتى في حضن التعليم ؟ ..
في إطار مجهود إعادة إبداع المصالح والخدمات العمومية نعتبر أن لكل من المثقفين والكتاب والفنانين والعلماء . . الخ دور حاسم عليهم أن يلعبوه ؛ إنهم يستطيعون أولا أن يساهموا في تكسير احتكار واستئثار التكنوقراطية الأورثودوكسية بوسائل البث والنشر ، ولكنهم يستطيعون أيضا ان ينخرطوا ملتزمين بطريقة منظمة ودائمة ، وليس فقط في اللقاءات بمناسبة ظرف الأزمة ، إلى جانب أولئك الذين هم في مستوى توجيه مستقبل المجتمع بفعالية ؛ جمعيات ونقابات خصوصا ، والعمل على إنجاز تحليلات صارمة ونحث اقتراحات مبتكرة حول كبريات المسائل التي تحظر الأورثودوكسية الإعلامية ـ السياسية طرحها : أعني بذلك خاصة مسألة توحيد الحقل الاقتصادي العالمي والتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية للتقسيم العالمي الجديد للعمل ، أو مسألة قوانين الأجور المزعومة للأسواق المالية التي يضحي باسمها بعديد من المبادرات السياسية ، ومسألة وظائف التربية والثقافة في اقتصادات تحول فيها الرأسمال التكويني (= الإعلامي ) أحد القوى المنتجة الأكثر تحديدا من غيرها . . . الخ .
يمكن أن يبدو هذا البرنامج مجردا ومحض نظري ، إلا أنه يمكن الطعن في النزعة التكنوقراطية السلطوية بدون السقوط في النزعة الشعبوية التي ضحت من أجلها في الغالب الأعم حركات الماضي الاجتماعية ، والتي تشكل مرة أخرى أيضا لعبة التكنوقراطيين .
إن ما أردت أن أعبر عنه على كل حال وربما بدون حذاقة ــ وأنا ألتمس العذر من أولئك الذين يناضلون اليوم من أجل تغيير المجتمع : وأعتقد بالفعل بأنه لا يمكننا ممارسة مقاومة فعالة للتكنوقراطية الوطنية والعالمية إلا بمواجهتها في ميدانها المفضل ؛ أي ميدان العلم ، الاقتصادي منه خاصة ، وأن نضع في حال تعارض مع المعرفة المجردة و المشوهة التي يتباهون بها ، معرفة أكثر احتراما للإنسان وللحقائق التي يحتك بها هذا الإنسان ويواجهها .
باريس ، ديسمبر 1995 .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
بـقـلـم : بيير بورديو
عـــن : " نقيض نار " ( نصوص من أجل المساهمة في مناهضة المد النيوليبرالي ) ماي 98 .
إن حركة العاطلين هذه حدث وحيد من نوعه واستثنائي . وبعكس ما يتم تكراره لنا باستمرار على طول صفحات الجرائد المكتوبة والمنطوقة ، فإن هذا الاستثناء الفرنسي شيء يمكننا أن نفخر به . لقد أوضحت بالفعل كل الأعمال العلمية أن البطالة تدمر كل أولئك الذين تطالهم وتمحق مبيدة دفاعاتهم وإمكاناتهم الاحتجاجية .
وإذا أمكن إبطال هذا الضرب من القدرية ، فذلك بفضل العمل الدؤوب للجمعيات والأفراد الذين شجعوا وساندوا ونظموا هذه الحركة . وأنا لا أستطيع أن أمنع نفسي عن اعتبار كون أن مسؤولين سياسيين من اليسار ونقابات نددوا بهذا الفعل ( ملتقين من جديد مع خطاب الباطرونا الأصلي ضد النقابات الناشئة ) شيئا خارجا عن المألوف واستثنائيا ، هناك حيث كان عليهم أن يعترفوا بفضائل العمل المناضل الذي بدونه ، ونحن نعرف ذلك جيدا ، لم يكن ليكون هنالك أي شيء أبدا يشبه حركة اجتماعيـة . كما أنني من جهتي أصر على التعبير عن احترامي وامتناني ـ الذي هو من الكلية بمقدار ما أن مبادرة هؤلاء السياسيين تبدو لي مبادرة ميؤوسا منها ـ لكل أولئك الذين بداخل النقابات والجمعيات المتجمعة في حضن الحالات العامة من أجل الحركة الاجتماعية، جعلوا ممكنا ما يشكل بحق معجزة اجتماعية لن ننتهي على التو من اكتشاف فضائلها وحسن صنيعها .
إن أول فتح لهذه الحركة هو الحركة ذاتها ووجودها ذاته : فقد انتشلت العاطلين ،ومعهم كل العمال المهددين بالهشاشة والذين تتعاظم أعدادهم يوما عن يوم ، من الاختفاء عن الأنظار ومن الوحدة والصمت ، وباختصار من اللاوجود .
وبعودة ظهورهم في واضحة النهار ، فقد حمل العاطلون ونقلوا إلى حالة الوجود وإلى نوع من الفخر والاعتداد بالنفس كل الرجال والنساء الذين ، كما هو شأن العاطلين ، يرميهم انعدام الشغل في العادة في حمأة النسيان والمهانة . إلا أن هؤلاء العاطلين يعيدون إلى الأذهان أن أحد أسس النظام الاقتصادي والاجتماعي يتمثل في البطالة الجماهيرية والتهديد يجثم على كل أولئك الذين لا زالوا يتوفرون على عمل ومـورد رزق .
وبوصفهم غير منغلقين بداخل حركة أنانية فإنهم يعلنون أنه حتى إذا كان هناك عاطل وعاطل ، فإن الفوارق في ما بين الحاصلين على الحد الأدنى للأجر والعاطلين الباحثين عن حق أو مساعدة تضامنية خاصة ، ليست مختلفة جذريا عن الفوارق التي تفصل وتميز العاطلين عن كل العمال ذوي الأوضاع الهشة . وتلك حقيقة أساسية يمكن أن ننساها أو أن نجعل الناس ينسونها من خلال التركيز بشكل خاص على مطالب العاطلين " الصريحة " ( إذا أمكننا قول ذلك ) والكفيلة بتمييزهم عن العمال ، وبخاصة لأكثر أوضاعهم هشاشة من بينهم ، والذين يمكن أن يشعروا بأنهم نُسوا .
مؤقتون ، منتدبون للقيام بعمل محدد ولمدة محددة ، ملحقون تكميليون ، عرضيون ، متعاقدون لمدة محددة ، معوضون في الصناعة والتجارة والتعليم ، بالمسرح أو السينما ، حتى ولو أن هناك فوارق كبرى يمكن أن تميزهم عن العاطلين وتميزهم عن بعضهم البعض ، كلهم يعيشون على الخوف من البطالة ، وهم في الغالب تحت تهديد الابتزاز الذي تمكن البطالة من ممارسته عليهم ؛ فالهشاشة تسمح ببروز استراتيجيات جديدة للهيمنة والاستغلال مؤسسة على ابتزاز التهديد بالتسريح الذي يمارس اليوم على مستوى التراتبية كلها ؛ بالمقاولات الخاصة وحتى بالمقاولات العمومية ، والذي يؤدي على مستوى مجموع عالم الشغل ، وبالأخص على مستوى مقاولات الإنتاج الثقافي إلى جثوم رقابة كاسرة تحظر التعبئة والمطالبة . إن الانحطاط المعمم لظروف الشغلأضحى ممكنا بل ومشجعا عليه نتيجة البطالة ، ولأن الفرنسيين يعرفون ذلك بغموض فإن كثيرين منهم يشعرون ويعلنون أنهم متضامنون مع معركة مثل معركة العاطلين . وهذه هو ما يمكننا من القول ، بدون أن نلعب بالكلمات ، بأن تعبئة أولئك الذين يشكل وجودهم العامل الأساسي لإحباط التعبئة هو التشجيع الأمثل للتعبئة وللقطع مع القدرية السياسية .
وحركة العاطلين الفرنسيين تشكل أيضا دعوة لكل العاطلين ولكل العمال العاملين في أوضاع هشة بمجموع أوربا : إن فكرة مزعزعة جديدة ظهرت ، ويمكن أن تصبح أداة صراع بإمكان كل حركة وطنية أن تحوزها . إن العاطلين يُذكِّرونَ كل العمال بأنهم جزء مرتبط ارتباطا وثيقا بالعاطلين ، وبأن العاطلين الذين يجثم وجودهم بقوة عليهم وعلى ظروف عملهم هما نتاج اختيار سياسي ، وبأن تعبئة قادرة على تجاوز الحدود التي تفصل بداخل كل بلد بين العاملين وغير العاملين ، ومن جهة أخرى الحدود الفاصلةَ بين مجموع العاملين ومجموع غير العاملين بالبلدان الأخرى يمكن أن تواجه السياسة التي تجعل من غير العاملين حكماً بالصمت والخنوع على أولئك الذين ينعمون بـ " حُظْوَةٍ " غير أكيدة و لا آمنة تتمثل في ممارستهم لعمل هش زيادة أو نقصاناً .
باريس ، يناير 1998
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
ضد تدمير حضارة
أناهنا لكي أعرب عن مساندتي لكل أولئك الذين يُصارعون منذ ثلاثة أسابيع ويقاومون تدمير حضارة مرتبطة بوجود المصالح العمومية ، تلك المتمثلة في المساواة الجمهورية في الحقوق : الحق في التعليم ، الصحة والثقافة ، البحث والفن ، وقبل كل شيء ، الحق في الشغل .
أنا هنا كي أقول إننا نتفهم هذه الحركة العميقة ؛ أي في نفس الآن فقدان الأمل والآمال التي تعبر عن ذاتها هنا ونستشعرها أيضا ؛ لأجل أن نقول إننا لا نفهم ( أو إننا لن نفهم إلا بشكل عميق وزائد ) أولئك الذين لا يتفهمونها كهذا الفيلسوف الذي اكتشف باندهاش من خلال " صحيفة الأحد ليوم 10 ديسمبر ، الهوة القائمة في ما بين التفهم العقلاني للعالم " المشخص حسب رأيه في ألان جوبي ــ وهو يقولها حرفيا ــ ، و " الرغبة العميقة لدى الناس " .
إن هذا التعارض في ما بين الرؤيا على المدى الطويل لدى " أحد أفراد النخبة " المتنورة ونبضات الشعب القصيرة النظر أو نبضات ممثليه هو تعارض مميز للفكر الرجعي في كل الأزمنة والبلدان ، لكنه يتخذ اليوم صيغة جديدة مع نبالة الدولة التي تستمد الإقناع بمشروعيتها من العنوان المدرسي ، ومن سلطة العلم ، والاقتصادي منه خاصة : فليس العقل والحداثة وحدهما بالنسبة لحكام الحق الإلهي الجدد هؤلاء هما من جانب الحكام وإنما الحركة والتغيير أيضا ؛ وزراء وباطرونات أو " خبراء " ؛ واللاعقل والبدائية ، العطالة ونزعة المحافظة هي من جانب الشعب والنقابات والمثقفين النقدييـــن .
إن هذا اليقين التكنوقراطي هو الذي عبر عنه جوبي عندما استكتب نفسه قائلا :╗ أريد أن تكون فرنسا بلدا جديا وبلدا سعيدا س . وهو ما يقبل الترجمة هكذا : ╗ أريد ان يكون الأشخاص الجديون ؛ أي النخبة والنبلاء ، أولئك الذين يعرفون أين توجد سعادة الشعب في مستوى تحقيق سعادة الشعب على الرغم منه ، أي ضدا على إرادته التي أعمتها بالفعل رغائبه التي تحدث عنها الفيلسوف ؛ فالشعب لا يعرف أين تكمن سعادته ــ وبخاصة سعادته في أن يُحكم من طرف أناس كالسيد جوبي ــ يعرفون أين تكمن سعادته أفضل منه س . بهذه الطريقة يفكر التكنوقراطيون وبها يفهمون الديمقراطية . ويُفهم من ذلك أنهم لا يفهمون أن الشعب الذي يدعون أنهم يحكمون باسمه ، ينزل إلى الشارع ــ مفعما بالإحساس بالغبن ! ــ من أجل معارضتهم .
إن نبالة الدولة هاته التي تبشر بذبول الدولة والسيادة بدون شريك للسوق وللمستهلك ، البديل التجاري للمواطن ، أحكمت فبضتها على الدولة وجعلت من المصلحة العامة مصلحة خاصة ، ومن الشأن العمومي ومن الجمهورية شأنها الخاص . وما هو في مهب الريح اليوم هو إعادة الغزو المنتظر أن تباشره الديمقراطية ضد التكنوقراطية : يجب أن نحسم مع طغيان " الخبراء " على شاكلة البنك العالمي أو صندوق النقد الدولي الذين يفرضون بدون جدال قرارات الليفياتان الجديد Léviathan المتمثل في " الأسواق المالية " ، والذين لا ينوون التفاوض بل " الشرح " ؛ يجب أن نقطع مع الإيمان الجديد باللاتحاشية التاريخية التي يجاهر بها منظروا النزعة الليبيرالية ؛ يجب إبداع صيغ جديدة لعمل سياسي جماعي قادر على الفعل في الضرورات ، الاقتصادية منها خاصة ( وتلك يمكن أن تكون مهمة الخبراء ) ، لكن من أجل مصارعتها عند الاقتضاء وتحييدها .
إن الأزمة اليوم هي فرصة تاريخية بالنسبة لفرنسا ، وبدون شك أيضا بالنسبة لكل أولئك الذين يرفضون بأوربا وبأرجاء العالم ، والمتزايد عددهم باستمرار كل يوم ، البديل الجديد المتمثل في الليبيرالية أو الوحشية . سككيون ، بريديون ، رجال تعليم ، مستخدمون بالمصالح العمومية ، طلبة ، وكثير آخرون ملتزمون عبر الفعل أو الانفعال بداخل الحركة طرحوا من خلال مظاهراتهم وتصريحاتهم ، من خلال نقاشاتهم التي لا تحصى ، تلك التي أطلقوا شرارتها والتي يجهد الغطاء الإعلامي نفسه في خنقها وإخمادها بدون جدوى ، المشاكل الأساسية تماما والتي تمنع أهميتها من أن يُترك شأنها لتكنوقراطيين كافيين من حيث العدد أو غير كافيين : فكيف نعيد للمعنيين الأُول الذين هم كل واحد منا التعريف المتنور والمعقول لمستقبل الخدمات العمومية ؛ صحة وتعليما ونقلا . . الخ بترابط خاصة مع أولئك الذين هم معرضون في بلدان أوربا الأخرى لنفس التهديدات والمخاطر ؟ .. كيف السبيل لإعادة إبداع مدرسة الجمهورية ، برفض العودة تدريجيا ، على مستوى التعليم العالي ، لتربية بسرعتين يرمز إليها التعارض في ما بين كبريات المعاهد من جهة والكليات ؟ .. ونفس السؤال يمكن أن يطرح بخصوص الصحة أو النقل . كيف يمكننا مقاومة الهشاشة المهددة لكل مستخدمي المصالح العمومية والتي تتسبب في ألوان من المرهونية والتركيع البشع بشكل خاص في حضن مقاولات التوزيع والنشر الثقافي من راديو وتلفزة أو صحافة بفعل تأثير الرقابة التي تمارسها هذه المقاولات ، أو حتى في حضن التعليم ؟ ..
في إطار مجهود إعادة إبداع المصالح والخدمات العمومية نعتبر أن لكل من المثقفين والكتاب والفنانين والعلماء . . الخ دور حاسم عليهم أن يلعبوه ؛ إنهم يستطيعون أولا أن يساهموا في تكسير احتكار واستئثار التكنوقراطية الأورثودوكسية بوسائل البث والنشر ، ولكنهم يستطيعون أيضا ان ينخرطوا ملتزمين بطريقة منظمة ودائمة ، وليس فقط في اللقاءات بمناسبة ظرف الأزمة ، إلى جانب أولئك الذين هم في مستوى توجيه مستقبل المجتمع بفعالية ؛ جمعيات ونقابات خصوصا ، والعمل على إنجاز تحليلات صارمة ونحث اقتراحات مبتكرة حول كبريات المسائل التي تحظر الأورثودوكسية الإعلامية ـ السياسية طرحها : أعني بذلك خاصة مسألة توحيد الحقل الاقتصادي العالمي والتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية للتقسيم العالمي الجديد للعمل ، أو مسألة قوانين الأجور المزعومة للأسواق المالية التي يضحي باسمها بعديد من المبادرات السياسية ، ومسألة وظائف التربية والثقافة في اقتصادات تحول فيها الرأسمال التكويني (= الإعلامي ) أحد القوى المنتجة الأكثر تحديدا من غيرها . . . الخ .
يمكن أن يبدو هذا البرنامج مجردا ومحض نظري ، إلا أنه يمكن الطعن في النزعة التكنوقراطية السلطوية بدون السقوط في النزعة الشعبوية التي ضحت من أجلها في الغالب الأعم حركات الماضي الاجتماعية ، والتي تشكل مرة أخرى أيضا لعبة التكنوقراطيين .
إن ما أردت أن أعبر عنه على كل حال وربما بدون حذاقة ــ وأنا ألتمس العذر من أولئك الذين يناضلون اليوم من أجل تغيير المجتمع : وأعتقد بالفعل بأنه لا يمكننا ممارسة مقاومة فعالة للتكنوقراطية الوطنية والعالمية إلا بمواجهتها في ميدانها المفضل ؛ أي ميدان العلم ، الاقتصادي منه خاصة ، وأن نضع في حال تعارض مع المعرفة المجردة و المشوهة التي يتباهون بها ، معرفة أكثر احتراما للإنسان وللحقائق التي يحتك بها هذا الإنسان ويواجهها .
باريس ، ديسمبر 1995 .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
بـقـلـم : بيير بورديو
عـــن : " نقيض نار " ( نصوص من أجل المساهمة في مناهضة المد النيوليبرالي ) ماي 98 .
إن حركة العاطلين هذه حدث وحيد من نوعه واستثنائي . وبعكس ما يتم تكراره لنا باستمرار على طول صفحات الجرائد المكتوبة والمنطوقة ، فإن هذا الاستثناء الفرنسي شيء يمكننا أن نفخر به . لقد أوضحت بالفعل كل الأعمال العلمية أن البطالة تدمر كل أولئك الذين تطالهم وتمحق مبيدة دفاعاتهم وإمكاناتهم الاحتجاجية .
وإذا أمكن إبطال هذا الضرب من القدرية ، فذلك بفضل العمل الدؤوب للجمعيات والأفراد الذين شجعوا وساندوا ونظموا هذه الحركة . وأنا لا أستطيع أن أمنع نفسي عن اعتبار كون أن مسؤولين سياسيين من اليسار ونقابات نددوا بهذا الفعل ( ملتقين من جديد مع خطاب الباطرونا الأصلي ضد النقابات الناشئة ) شيئا خارجا عن المألوف واستثنائيا ، هناك حيث كان عليهم أن يعترفوا بفضائل العمل المناضل الذي بدونه ، ونحن نعرف ذلك جيدا ، لم يكن ليكون هنالك أي شيء أبدا يشبه حركة اجتماعيـة . كما أنني من جهتي أصر على التعبير عن احترامي وامتناني ـ الذي هو من الكلية بمقدار ما أن مبادرة هؤلاء السياسيين تبدو لي مبادرة ميؤوسا منها ـ لكل أولئك الذين بداخل النقابات والجمعيات المتجمعة في حضن الحالات العامة من أجل الحركة الاجتماعية، جعلوا ممكنا ما يشكل بحق معجزة اجتماعية لن ننتهي على التو من اكتشاف فضائلها وحسن صنيعها .
إن أول فتح لهذه الحركة هو الحركة ذاتها ووجودها ذاته : فقد انتشلت العاطلين ،ومعهم كل العمال المهددين بالهشاشة والذين تتعاظم أعدادهم يوما عن يوم ، من الاختفاء عن الأنظار ومن الوحدة والصمت ، وباختصار من اللاوجود .
وبعودة ظهورهم في واضحة النهار ، فقد حمل العاطلون ونقلوا إلى حالة الوجود وإلى نوع من الفخر والاعتداد بالنفس كل الرجال والنساء الذين ، كما هو شأن العاطلين ، يرميهم انعدام الشغل في العادة في حمأة النسيان والمهانة . إلا أن هؤلاء العاطلين يعيدون إلى الأذهان أن أحد أسس النظام الاقتصادي والاجتماعي يتمثل في البطالة الجماهيرية والتهديد يجثم على كل أولئك الذين لا زالوا يتوفرون على عمل ومـورد رزق .
وبوصفهم غير منغلقين بداخل حركة أنانية فإنهم يعلنون أنه حتى إذا كان هناك عاطل وعاطل ، فإن الفوارق في ما بين الحاصلين على الحد الأدنى للأجر والعاطلين الباحثين عن حق أو مساعدة تضامنية خاصة ، ليست مختلفة جذريا عن الفوارق التي تفصل وتميز العاطلين عن كل العمال ذوي الأوضاع الهشة . وتلك حقيقة أساسية يمكن أن ننساها أو أن نجعل الناس ينسونها من خلال التركيز بشكل خاص على مطالب العاطلين " الصريحة " ( إذا أمكننا قول ذلك ) والكفيلة بتمييزهم عن العمال ، وبخاصة لأكثر أوضاعهم هشاشة من بينهم ، والذين يمكن أن يشعروا بأنهم نُسوا .
مؤقتون ، منتدبون للقيام بعمل محدد ولمدة محددة ، ملحقون تكميليون ، عرضيون ، متعاقدون لمدة محددة ، معوضون في الصناعة والتجارة والتعليم ، بالمسرح أو السينما ، حتى ولو أن هناك فوارق كبرى يمكن أن تميزهم عن العاطلين وتميزهم عن بعضهم البعض ، كلهم يعيشون على الخوف من البطالة ، وهم في الغالب تحت تهديد الابتزاز الذي تمكن البطالة من ممارسته عليهم ؛ فالهشاشة تسمح ببروز استراتيجيات جديدة للهيمنة والاستغلال مؤسسة على ابتزاز التهديد بالتسريح الذي يمارس اليوم على مستوى التراتبية كلها ؛ بالمقاولات الخاصة وحتى بالمقاولات العمومية ، والذي يؤدي على مستوى مجموع عالم الشغل ، وبالأخص على مستوى مقاولات الإنتاج الثقافي إلى جثوم رقابة كاسرة تحظر التعبئة والمطالبة . إن الانحطاط المعمم لظروف الشغلأضحى ممكنا بل ومشجعا عليه نتيجة البطالة ، ولأن الفرنسيين يعرفون ذلك بغموض فإن كثيرين منهم يشعرون ويعلنون أنهم متضامنون مع معركة مثل معركة العاطلين . وهذه هو ما يمكننا من القول ، بدون أن نلعب بالكلمات ، بأن تعبئة أولئك الذين يشكل وجودهم العامل الأساسي لإحباط التعبئة هو التشجيع الأمثل للتعبئة وللقطع مع القدرية السياسية .
وحركة العاطلين الفرنسيين تشكل أيضا دعوة لكل العاطلين ولكل العمال العاملين في أوضاع هشة بمجموع أوربا : إن فكرة مزعزعة جديدة ظهرت ، ويمكن أن تصبح أداة صراع بإمكان كل حركة وطنية أن تحوزها . إن العاطلين يُذكِّرونَ كل العمال بأنهم جزء مرتبط ارتباطا وثيقا بالعاطلين ، وبأن العاطلين الذين يجثم وجودهم بقوة عليهم وعلى ظروف عملهم هما نتاج اختيار سياسي ، وبأن تعبئة قادرة على تجاوز الحدود التي تفصل بداخل كل بلد بين العاملين وغير العاملين ، ومن جهة أخرى الحدود الفاصلةَ بين مجموع العاملين ومجموع غير العاملين بالبلدان الأخرى يمكن أن تواجه السياسة التي تجعل من غير العاملين حكماً بالصمت والخنوع على أولئك الذين ينعمون بـ " حُظْوَةٍ " غير أكيدة و لا آمنة تتمثل في ممارستهم لعمل هش زيادة أو نقصاناً .
باريس ، يناير 1998
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
عبير الروح- عضو ماسي
-
عدد المساهمات : 29839
نقاط : 115307
تاريخ التسجيل : 09/02/2010
رد: بيير بورديو (اهم مقالته السوسيولجية)
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
يد الدولة اليمنى ويدها اليسرى
حوار مع بيير بورديو
سؤال : لقد تناول العدد الجديد من المجلة التي تديرونها موضوع المعاناة ونحن نجد في هذا العدد عدة حوارات مع أشخاص لا تعطيهم وسائل الإعلام الكلمة عادة : شباب الضواحي المحرومون ، صغار الفلاحين ، العمال الاجتماعيون. لقد عبر الأستاذ الرئيس في إعدادية على سبيل المثال ، والذي يعاني من صعوبات جمة ، عن مرارته الشخصية ؛ فبدل أن يحرص على نقل المعارف لتلامذته ، تحول على الرغم منه إلى شرطي في ما يشبه كوميسارية، فهل تعنقدون أن شهادات شيقة وطريفة كهاته يمكن أن تساعد على تفهم تململ اجتماعي؟ …
بيير بورديو : إننا نلتقي في إطار البحث الذي نجريه حول المعاناة الاجتماعية عديدا من الأشخاص كهذا الأستاذ الرئيس في الإعدادية الذين داستهم واخترقتهم تناقضات العالم الاجتماعي المعيشة على شكل محن شخصية، وأستطيع أن أذكر أيضا رئيس المشروع هذا المكلف بتنسيق جميع النشاطات في إحدى " الضواحي الصعبة " بمدينة صغيرة شمال فرنسا، لقد وجد نفسه في مواجهة تناقضات هي الحد الأقصى للتناقضات التي يشعر بها حاليا كل أولئك الذين نسميهم " عمالا اجتماعيين " : المساعدين الاجتماعيين ؛ المربين ؛ هيئة القضاء ؛ وأيضا أكثر فأكثر الأساتذة والمعلمون. إنهم يشكلون ما أسميه اليد اليسرى للدولة ؛ مجموع أعوان الوزارات المستهلِكة كما يقال عنها ، والتي هي في كنف الدولة بصمة وعلامة على صراعات الماضي الاجتماعية ، إنهم يتقابلون مع اليد اليمنى المتمثلة في كبار موظفي وزارة المالية والأبناك العمومية أو الخاصة والمكاتب الوزارية. إن عددا من الحركات الاجتماعية التي نشهدها ( وسنشهدها ) هي تعبير عن ثورة النبالة الصغرى للدولة ضد نبالتها الكبرى.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : كيف تفسرون هذا السخط ، هذه الصورة من فقدان الأمل وهذه الثورات؟ ..
ب.ب: أعتقد أن لدى اليد اليسرى إحساسا بأن اليد اليمنى لم تعد تعرف أبدا ، أو أدهى من ذلك ، لم تعد تريد أبدا حقا معرفة ما تفعله اليد اليسرى، وفي كل الأحوال فهي لا تريد أن تؤدي ثمن ذلك. وأحد الأسباب الكبرى لفقدان الأمل لدى كل هؤلاء الأفراد يكمن في أن الدولة انسحبت ، أو هي في طريقها للانسحاب ، من عدد من قطاعات الحياة الاجتماعية الملقاة على عاتقها والتي هي مكلفة بها: السكن العمومي ، المستشفيات العمومية . . . الخ ، وهو سلوك مدهش ومشين كثيرا على الأقل بالنسبة لبعضها عندما يتعلق الأمر بدولة اشتراكية يمكننا أن نتوقع منها على الأقل أن تشكل ضامنا للمصلحة العمومية كمصلحة مفتوحة وتخدم الجميع بدون تمييز . . . إن ما يوصف بكونه أزمة في السياسة ونقيضا للنزعة البرلمانية هو في الواقع فقدان الأمل اتجاه الدولة كمسؤولة عن المرفق العمومي.
كون الاشتراكيين لم يكونوا اشتراكيين كما يزعمون ، فهذا لن يغيظ أحدا : فهذه الأوقات عسيرة ، وهامش المناورة والفعل ليس واسعا، لكن ما يمكن أن يفاجئنا هو أنهم استطاعوا أن يساهموا إلى هذا الحد في إضعاف الشأن العمومي : أولا في الأفعال عبر جميع أنواع التدابير أو السياسات ( ولن أشير هنا إلا إلى وسائل الإعلام ) المستهدفة لتصفية مكتسبات الدولة الحامية Welfare State ، وبخاصة ربما في الخطاب العمومي من خلال امتداح المقاولة الخاصة( كما لو أنه لم يكن لدى روح المقاولة أي ميدان آخر غير ميدان المقاولة ) وتشجيع المصلحة الخاصة.في كل هذا شيء مما يفاجئ ، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين يتم إرسالهم إلى الخطوط الأمامية للقيام بالمهام المسماة " اجتماعية " وسد أشكال نقص منطق السوق الأكثر عدم قابلية للتحمل ، بدون تزويدهم بالوسائل التي تمكنهم حقا من إنجاز مهامهم. فكيف لا يمكن امتلاك الإحساس بأنك تعرضت للنصب أو يتم التنكر لك بشكل دائم ؟ ..
كان علينا أن نفهم منذ مدة طويلة أن ثورتهم تمتد إلى ما وراء مسائل الأجر ، حتى ولو أن الأجر المحصل عليه هو مؤشر لا اشتباه فيه للقيمة الممنوحة للعمل وللقائمين به ؛ فالازدراء لوظيفة ما يلاحظ أو من خلال المقابل المادي ( الأجر ) المخصص لها ، الأقل أو الأكثر تفاهة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : هل تعتقدون أن هامش الفعل لدى الحكام السياسيين هو بهذا الحد من الضيق؟ ..
ب.ب: إنه دون شك أكثر تقلصا مما يراد لنا أن نعتقد ، ويظل هناك على كل حال مجال تمتلك فيه الحكومات كامل حرية التصرف : إنه مجال الرمزي.يتوجب أن تفرض نموذجية السلوك على جميع موظفي الدولة ، وخاصة عندما تحتمي هذه النموذجية بتقليد الإخلاص لمصالح الناس الأكثر خصاصة وفقرا. بيد أنه كيف لا يمكن التشكك عندما نرى فقط لا أمثلة الفساد ( التي هي أحيانا رسمية تماما من خلال مكافئات بعض كبار الموظفين ) أو خيانة المصلحة العامة ( والكلمة بدون شك جد قوية : وأنا أعني السلوك الأعوج ) وكل أشكال الاختلاس لممتلكات وأرباح وخدمات عمومية لغايات خاصة : المحسوبية ، المحاباة ( فلدى حكامنا كثير من " الأصدقاء الشخصيين " ) ، الزبونية ؟ ..
وأنا لا أتحدث عن الأرباح الرمزية ! فالتلفزة ساهمت بدون شك بنفس قدر مساهمة الرشاوي في انحطاط الفضيلة العمومية؛ لقد نادت ودفعت إلى واجهة المسرح السياسي والثقافي الأمامية مسألة : " هل رأيتني ؟ .. " مهمومة قبل كل شيء بضمان الظهور على الشاشة والتباهي بالذات في تناقض كلي مع قيم التضحية والتفاني المعتمة للمصلحة الجماعية التي تصنع الموظف أو المناضل. إن نفس الهم الأناني المتمثل في التباهي وإضفاء القيمة على الذات ( في الغالب على حساب المنافسين ) هو الذي يوضح كيف أن " تأثيرات الإعلان الإشهاري " تحولت إلى ممارسة جد شائعة ؛ فإجراء ما بالنسبة للعديد من الوزراء يكون لا قيمة له فيما يبدو إلا إذا كان يقبل أن يعلن عنه إشهاريا واعتباره منجزا منذ اللحظة التي يضحي فيها عموميا. وباختصار ، فإن الفساد الأكبر الذي يؤدي إلى إماطة النقاب عن الفضيحة لأنه يكشف عن التفاوت بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية ، ليس إلا تعريفا لكل ضروب " العنف " الصغيرة والعادية وعرضا للفخفخة وقبولا محموما للامتيازات المادية والرمزية.
سؤال : ما هو من وجهة نظرك رد فعل المواطنين إزاء الوضعية التي اكتشفتها؟..
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
ب.ب:لقد قرأت مؤخرا مقالة لكاتب ألماني حول مصر القديمة ، وهو يبين كيف أننا نرى شيئين يزهران في عصر أزمة الثقة في الدولة وفي المرفق العمومي : فلدى الحكام نرى الفساد المرتبط بانحطاط احترام الشأن العمومي ، ولدى المهيمن عليهم نرى التدين الشخصي مرفقا بفقدان الأمل المتعلق بالملاذات الدنيوية. ولدينا اليوم أيضا شعور بأن المواطن الشاعر بكونه ملفوظا خارج الدولة ( التي لا تطلب منه في العمق أي شيء آخر خارج المساهمات المادية الإجبارية وخاصة التضحية بالذات والتحمس ) يرفض الدولة وعاملا إياها كقوة خارجية وغريبة عنه يستخدمها لتحقيق أهم مصالحه.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : لقد تحدثت عن الحرية الكبرى لدى الحاكمين في المجال الرمزي ، و لا يتعلق الأمر بالسلوكيات المقدمة كأمثلة ؛ إذ يتعلق الأمر أيضا بالأقوال وبالمثل المعبئة ، فمن أين يأتي النقص والقصور الحاليان بخصوص هذه النقطة؟ ..
ب.ب: لقد تحدثنا كثيرا عن صمت المثقفين ، وما يصدمني هو صمت السياسيين ؛ إنهم مفتقرون بشكل كبير للمثل المعبئة ، وذلك بدون شك لأن تحويل السياسة إلى حرفة والشروط المطلوبة من أولئك الذين يرومون تحقيق وضعية بداخل الأحزاب يقصيان أكثر فأكثر الأفراد الملهمين ، وبدون شك أيضا لأن تعريف النشاط السياسي تغير مع مجيء الموظفين الذين تعلموا في المدارس ( مدارس العلوم السياسية ) أنه من أجل أن تعمل بجد أو بكل بساطة حتى تتجنب الظهور بمظهر أداة التهييج أو كتحفة قديمة يستحسن التحدث عن التدبير بدل التدبير الذاتي ، وأنه يتوجب في كل الأحوال أن تضفي على ذاتك مظاهر ( أي لغة ) العقلانية الاقتصادية.
إن كل أنصاف الحذاق هؤلاء في مجال الاقتصاد المنغلقين بداخل النزعة الاقتصادية الضيقة والقصيرة النظر لدى نظرة صندوق النقد الدولي FMI للعالم التي أحدثت ( وستحدث ) أضرارا فادحة في علاقات الشمال / جنوب تغفل بطبيعة الحال الأخذ بعين الاعتبار للتكاليف الحقيقية على المدى القصير ، وبخاصة على المدى البعيد للفقر المادي والمعنوي الذي هو العاقبة الوحيدة والمؤكدة للسياسة الواقعية Realpolitik المشرعنة اقتصاديا : انحراف ، جريمة ، إغراق في الكحول ، حوادث الطرق . . . الخ . إن اليد اليمنى هنا أيضا المشغولة بمسألة التوازنات المالية تجهل ما تفعله اليد اليسرى المحتكة والمجابهة بالعواقب الاجتماعية لــ " اقتصاديات الموازنات والميزانيات " المكلفة غاليا في الغالب.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : هل فقدت القيم التي أسست عليها أفعال ومساهمات الدولة كل مصداقية ؟ ..
ب.ب: إن أول من يستخف بهذه القيم هم حراسها ، ولقد فعل مؤتمر رينس Rennes وقانون العفو من أجل إسقاط المصداقية عن الاشتراكيين أكثر مما فعلته عشر سنوات من الحملة ضد الاشتراكيين، ومناضل " مرتد " ( بكل معاني الكلمة ) يحدث من الخسائر أكثر مما يحدثه عشر خصوم. إلا أن عشر سنوات من السلطة الاشتراكية أنجزت بالكامل هدما للإيمان بالدولة وتدميرا للدولة الحامية وقع في السبعينيات باسم الليبرالية ؛ وأشير بذلك على الخصوص لسياسة الإسكان ، فقد كان لهذه السياسة كهدف معلن انتشال البورجوازية الصغيرة من السكنى الجماعية ( وبذلك من " النزعة الجماعية " ) وربطها بالملكية الخاصة لجناحها الفردي أو لشقتها في إطار الملكية المشتركة ، ولم تفعل هذه السياسة بمعنى ما سوى أنها نجحت نجاحا باهرا ، ونتيجتها توضح ما قلته منذ لحظة بخصوص التكاليف الاجتماعية لبعض الاقتصادات ؛ وذلك لأنها بدون شك العلة الكبرى وراء العزل الفضائي ، ومن ثمة وراء ما يسمى مشاكل " الضواحي " .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : إذا ما أردنا تحديد نموذج مثالي فسيكون إذن متمثلا في العودة باتجاه الدولة والشأن العمومي ، إنكم لا تشاطرون جميع الناس آراءهم .
ب.ب:رأي من رأي جميع الناس ؟ .. أهو رأي الأشخاص الذين يكتبون في الصحف والمثقفين الذين يوصون بــ " أقل ما يمكن من الدولة " والذين يدفنون بسرعة ما الشأن العمومي والمصلحة العمومية من أجل العموم . . إن لدينا هاهنا نموذجيا نمطيا لتأثير هذا المعتقد المشترك الذي يضع أطروحات قابلة تماما للمناقشة على الفور خارج إطار النقاش. يتوجب تحليل العمل الجماعي لــ" المثقفين الجدد " الذي خلق مناخا إيجابيا لانسحاب الدولة ، وبشكل واسع ، لإخضاع كل شيء للقيم الاقتصادية ؛ إنني أشير إلى ما سمي " عودة النزعة الفردية " ، وهي ضرب من النبوءة المنجزة ذاتيا تنحو نحو تدمير الأسس الفلسفية للدولة الحامية Welfare State ، وبخاصة مفهوم المسؤولية الجماعية ( في حوادث الشغل والمرض والبؤس ) ، وهي الفتح الأساسي للفكر الاجتماعي ( والسوسيولوجي ) . إن عودة الفرد هي أيضا ما يسمح بـ " توبيخ الضحية " المسؤولة وحدها عن تعاستها ونصحها بالبحث عن سبل الإغاثة الذاتية ، كل ذلك تحت غطاء ضرورة إنقاص تكاليف المقاولة التي يتم تردادها بشكل لا يعرف التوقف.
لقد خلقت ردة فعل الذعر المستعيد للماضي ، والتي حتمت أزمة 68 ، وهي الثورة الرمزية التي خضت كل الحاملين الصغار لرأسمال ثقافي ( إلى جانب الدعامة المتمثلة في الانهيار ـ غير المأمول للأنظمة من النمط السوفياتي ) خلقت الشروط الإيجابية للتشييد الفكري الذي عوض في نهايته " فكر العلوم السياسية " " فكر ماو " .
إن العالم الثقافي اليوم هو مجال صراع يستهدف إنتاج وفرض " مثقفين جدد " ، وإذن تعريفا جديدا للمثقف ودوره السياسي ، تعريفا جديدا للفلسفة والفيلسوف المنخرطين منذ الآن فصاعدا في النقاشات الفضفاضة لفلسفة سياسية بدون فنية {تقنية} ، لعلم اجتماعي مختزل إلى علم سياسة الأمسيات الانتخابية ، ولتعليق غير حذر على استطلاعات الرأي التجارية بدون منهج. لقد كانت لدى أفلاطون كلمة رائعة تنسحب على كل هؤلاء الناس ، وهي فيلسوف الدوكسا Doxosophe : فــ " تقني الرأي هذا الذي يعتقد أنه عارف " ( وأنا هنا أترجم المعنى الثلاثي للكلمة ) يطرح مشاكل السياسة بنفس الألفاظ التي يطرحها بها رجال الأعمال ورجال السياسة والصحافيون السياسيون ( أي بالضبط أولئك الذين يستطيعون أداء ثمن استطلاعات الرأي لصالحهم . . ).
سؤال: لقد أتيت على ذكر أفلاطون ، فهل يقترب سلوك السوسيولوجي من سلوك الفيلسوف؟ ..
ب.ب: إن السوسيولوجي يتعارض مع فيلسوف الرأي Doxosophe {الدوكسوسوفي} في أنه يضع البداهات موضع تساؤل مثلما هو شأن الفيلسوف ، وبخاصة تلك التي تطرح على شكل أسئلة ، أسئلته هو وكذا أسئلة الآخرين ، وذلك ما يصدم بعمق الدوكسوسوفي الذي يرى حكما سياسيا مسبقا في رفض الخضوع السياسي في العمق ، والذي يستلزم القبول اللاشعوري بقواسم مشتركة بالمعنى الأرسطي : أي الموضوعات أو الأطروحات التي تتم بواسطتها عملية الحجاج والبرهنة ولكننا لا نبرهن عليها هي ذاتها.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : ألا تنحو بمعنى ما نحو إحلال السوسيولوجي محل الفيلسوف ـ الملك الذي يعرف وحده أين تكمن المشاكل الحقيقية؟ ..
ب.ب: إن ما أدافع عنه قبل كل شيء هو إمكانية وضرورة المثقف النقدي والناقد أولا للدوكسا الفكرية التي يفرزها الدوكسوسوفيون ؛ فليست هناك ديمقراطية حقيقية بدون سلطة مضادة نقدية حقيقية ، والمثقف أحد مكونات هذه السلطة المضادة في المقام الأول ، وهذا هو السبب في أنني أعتبر أن فعل تدمير المثقف النقدي ، حيا أو ميتا ، ماركس ، نيتشه ، سارتر ، فوكو ، وبعض الفلاسفة الآخرين الذين نصنفهم تحت يافطة " فكر 68 " ـ هو فعل خطير وبمثل خطورة تدمير الشأن السياسي ويندرج في نفس المسعى الشمولي الرامي لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه.
إنني أود طامعا بطبيعة الحال أن يكون لدى المثقفين كلهم ، وأن يكونوا دائما في مستوى المسؤولية التاريخية الكبرى الملقاة على عاتقهم وأن يجندوا في إطار أفعالهم ونشاطاتهم لا سلطتهم المعنوية وحدها ، وإنما أيضا قدرتهم وكفايتهم الفكرية على طريقة بيير فيدال ناكي ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الذي وظف كامل اقتداره وتحكمه في المنهج التاريخي في نقد الاستخدامات المتعسفة للتاريخ (2). وهذا يعني كمناسبة لذكر كارل كراوس أن " ما بين وجعين ، أرفض أن أختار أخفهما " ، وإذا لم أكن قط متساهلا مع المثقفين " غير المسؤولين " ، فغنني لا أحب أيضا هؤلاء المسؤولين " المثقفين " المتعددي الأشكال والتآليف في ميادين مختلفة الذين يبيضون بضاعتهم السنوية في ما بين مجلسين للإدارة وثلاثة كوكتيلات صحافية وبعض مناسبات الظهور على شاشة التلفزيون .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال: إذن ما هو الدور الذي تتمنى أن يلعبه المثقفون وخاصة في بناء أوربا ؟ ..
ب.ب: إنني أتمنى أن يستطيع الكتاب والفنانون والفلاسفة والعلماء إسماع أصواتهم مباشرة في مجالات الحياة العامة التي يتميزون بخصوصها بالأهلية. وأعتقد أن الجميع سيربح الكثير من تمدد منطق الحياة الثقافية والفكرية ، أي منطق المحاجة والتفنيد ، وتوسعه ليطال الحياة العامة. إن ما يمتد اليوم في الغالب ليطال الحياة الفكرية هو منطق السياسة ، أي منطق الوشاية والقدح وتحريف أفكار الخصم واعتبارها مجرد شعارات.
الانتقال إلى المستوى الأوربي هو فقط ارتفاع إلى الكونية بدرجة أعلى ؛ تسجيل لمرحلة من مراحل مسيرة الدولة الكونية التي هي أبعد ما تكون عن الإنجاز حتى في مجال الشؤون الفكرية. ونحن لن نربح شيئا ذا بال بالفعل إذا ما جاءت نزعة تمركز أوربية لتحل محل النزعات الوطنية المكلومة للأمم الإمبريالية القديمة. وفي الوقت الذي أفضت فيه كل يوتوبيات القرن 19 بكل أشكال فسادها ، فمن المستعجل خلق ظروف عمل جماعي لإعادة بناء عالم من المثل الواقعية هي كفيلة بتعبئة الإرادات دون مخادعة العقول.
باريس ، ديسمبر 1991 .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
يد الدولة اليمنى ويدها اليسرى
حوار مع بيير بورديو
سؤال : لقد تناول العدد الجديد من المجلة التي تديرونها موضوع المعاناة ونحن نجد في هذا العدد عدة حوارات مع أشخاص لا تعطيهم وسائل الإعلام الكلمة عادة : شباب الضواحي المحرومون ، صغار الفلاحين ، العمال الاجتماعيون. لقد عبر الأستاذ الرئيس في إعدادية على سبيل المثال ، والذي يعاني من صعوبات جمة ، عن مرارته الشخصية ؛ فبدل أن يحرص على نقل المعارف لتلامذته ، تحول على الرغم منه إلى شرطي في ما يشبه كوميسارية، فهل تعنقدون أن شهادات شيقة وطريفة كهاته يمكن أن تساعد على تفهم تململ اجتماعي؟ …
بيير بورديو : إننا نلتقي في إطار البحث الذي نجريه حول المعاناة الاجتماعية عديدا من الأشخاص كهذا الأستاذ الرئيس في الإعدادية الذين داستهم واخترقتهم تناقضات العالم الاجتماعي المعيشة على شكل محن شخصية، وأستطيع أن أذكر أيضا رئيس المشروع هذا المكلف بتنسيق جميع النشاطات في إحدى " الضواحي الصعبة " بمدينة صغيرة شمال فرنسا، لقد وجد نفسه في مواجهة تناقضات هي الحد الأقصى للتناقضات التي يشعر بها حاليا كل أولئك الذين نسميهم " عمالا اجتماعيين " : المساعدين الاجتماعيين ؛ المربين ؛ هيئة القضاء ؛ وأيضا أكثر فأكثر الأساتذة والمعلمون. إنهم يشكلون ما أسميه اليد اليسرى للدولة ؛ مجموع أعوان الوزارات المستهلِكة كما يقال عنها ، والتي هي في كنف الدولة بصمة وعلامة على صراعات الماضي الاجتماعية ، إنهم يتقابلون مع اليد اليمنى المتمثلة في كبار موظفي وزارة المالية والأبناك العمومية أو الخاصة والمكاتب الوزارية. إن عددا من الحركات الاجتماعية التي نشهدها ( وسنشهدها ) هي تعبير عن ثورة النبالة الصغرى للدولة ضد نبالتها الكبرى.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : كيف تفسرون هذا السخط ، هذه الصورة من فقدان الأمل وهذه الثورات؟ ..
ب.ب: أعتقد أن لدى اليد اليسرى إحساسا بأن اليد اليمنى لم تعد تعرف أبدا ، أو أدهى من ذلك ، لم تعد تريد أبدا حقا معرفة ما تفعله اليد اليسرى، وفي كل الأحوال فهي لا تريد أن تؤدي ثمن ذلك. وأحد الأسباب الكبرى لفقدان الأمل لدى كل هؤلاء الأفراد يكمن في أن الدولة انسحبت ، أو هي في طريقها للانسحاب ، من عدد من قطاعات الحياة الاجتماعية الملقاة على عاتقها والتي هي مكلفة بها: السكن العمومي ، المستشفيات العمومية . . . الخ ، وهو سلوك مدهش ومشين كثيرا على الأقل بالنسبة لبعضها عندما يتعلق الأمر بدولة اشتراكية يمكننا أن نتوقع منها على الأقل أن تشكل ضامنا للمصلحة العمومية كمصلحة مفتوحة وتخدم الجميع بدون تمييز . . . إن ما يوصف بكونه أزمة في السياسة ونقيضا للنزعة البرلمانية هو في الواقع فقدان الأمل اتجاه الدولة كمسؤولة عن المرفق العمومي.
كون الاشتراكيين لم يكونوا اشتراكيين كما يزعمون ، فهذا لن يغيظ أحدا : فهذه الأوقات عسيرة ، وهامش المناورة والفعل ليس واسعا، لكن ما يمكن أن يفاجئنا هو أنهم استطاعوا أن يساهموا إلى هذا الحد في إضعاف الشأن العمومي : أولا في الأفعال عبر جميع أنواع التدابير أو السياسات ( ولن أشير هنا إلا إلى وسائل الإعلام ) المستهدفة لتصفية مكتسبات الدولة الحامية Welfare State ، وبخاصة ربما في الخطاب العمومي من خلال امتداح المقاولة الخاصة( كما لو أنه لم يكن لدى روح المقاولة أي ميدان آخر غير ميدان المقاولة ) وتشجيع المصلحة الخاصة.في كل هذا شيء مما يفاجئ ، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين يتم إرسالهم إلى الخطوط الأمامية للقيام بالمهام المسماة " اجتماعية " وسد أشكال نقص منطق السوق الأكثر عدم قابلية للتحمل ، بدون تزويدهم بالوسائل التي تمكنهم حقا من إنجاز مهامهم. فكيف لا يمكن امتلاك الإحساس بأنك تعرضت للنصب أو يتم التنكر لك بشكل دائم ؟ ..
كان علينا أن نفهم منذ مدة طويلة أن ثورتهم تمتد إلى ما وراء مسائل الأجر ، حتى ولو أن الأجر المحصل عليه هو مؤشر لا اشتباه فيه للقيمة الممنوحة للعمل وللقائمين به ؛ فالازدراء لوظيفة ما يلاحظ أو من خلال المقابل المادي ( الأجر ) المخصص لها ، الأقل أو الأكثر تفاهة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : هل تعتقدون أن هامش الفعل لدى الحكام السياسيين هو بهذا الحد من الضيق؟ ..
ب.ب: إنه دون شك أكثر تقلصا مما يراد لنا أن نعتقد ، ويظل هناك على كل حال مجال تمتلك فيه الحكومات كامل حرية التصرف : إنه مجال الرمزي.يتوجب أن تفرض نموذجية السلوك على جميع موظفي الدولة ، وخاصة عندما تحتمي هذه النموذجية بتقليد الإخلاص لمصالح الناس الأكثر خصاصة وفقرا. بيد أنه كيف لا يمكن التشكك عندما نرى فقط لا أمثلة الفساد ( التي هي أحيانا رسمية تماما من خلال مكافئات بعض كبار الموظفين ) أو خيانة المصلحة العامة ( والكلمة بدون شك جد قوية : وأنا أعني السلوك الأعوج ) وكل أشكال الاختلاس لممتلكات وأرباح وخدمات عمومية لغايات خاصة : المحسوبية ، المحاباة ( فلدى حكامنا كثير من " الأصدقاء الشخصيين " ) ، الزبونية ؟ ..
وأنا لا أتحدث عن الأرباح الرمزية ! فالتلفزة ساهمت بدون شك بنفس قدر مساهمة الرشاوي في انحطاط الفضيلة العمومية؛ لقد نادت ودفعت إلى واجهة المسرح السياسي والثقافي الأمامية مسألة : " هل رأيتني ؟ .. " مهمومة قبل كل شيء بضمان الظهور على الشاشة والتباهي بالذات في تناقض كلي مع قيم التضحية والتفاني المعتمة للمصلحة الجماعية التي تصنع الموظف أو المناضل. إن نفس الهم الأناني المتمثل في التباهي وإضفاء القيمة على الذات ( في الغالب على حساب المنافسين ) هو الذي يوضح كيف أن " تأثيرات الإعلان الإشهاري " تحولت إلى ممارسة جد شائعة ؛ فإجراء ما بالنسبة للعديد من الوزراء يكون لا قيمة له فيما يبدو إلا إذا كان يقبل أن يعلن عنه إشهاريا واعتباره منجزا منذ اللحظة التي يضحي فيها عموميا. وباختصار ، فإن الفساد الأكبر الذي يؤدي إلى إماطة النقاب عن الفضيحة لأنه يكشف عن التفاوت بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية ، ليس إلا تعريفا لكل ضروب " العنف " الصغيرة والعادية وعرضا للفخفخة وقبولا محموما للامتيازات المادية والرمزية.
سؤال : ما هو من وجهة نظرك رد فعل المواطنين إزاء الوضعية التي اكتشفتها؟..
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
ب.ب:لقد قرأت مؤخرا مقالة لكاتب ألماني حول مصر القديمة ، وهو يبين كيف أننا نرى شيئين يزهران في عصر أزمة الثقة في الدولة وفي المرفق العمومي : فلدى الحكام نرى الفساد المرتبط بانحطاط احترام الشأن العمومي ، ولدى المهيمن عليهم نرى التدين الشخصي مرفقا بفقدان الأمل المتعلق بالملاذات الدنيوية. ولدينا اليوم أيضا شعور بأن المواطن الشاعر بكونه ملفوظا خارج الدولة ( التي لا تطلب منه في العمق أي شيء آخر خارج المساهمات المادية الإجبارية وخاصة التضحية بالذات والتحمس ) يرفض الدولة وعاملا إياها كقوة خارجية وغريبة عنه يستخدمها لتحقيق أهم مصالحه.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : لقد تحدثت عن الحرية الكبرى لدى الحاكمين في المجال الرمزي ، و لا يتعلق الأمر بالسلوكيات المقدمة كأمثلة ؛ إذ يتعلق الأمر أيضا بالأقوال وبالمثل المعبئة ، فمن أين يأتي النقص والقصور الحاليان بخصوص هذه النقطة؟ ..
ب.ب: لقد تحدثنا كثيرا عن صمت المثقفين ، وما يصدمني هو صمت السياسيين ؛ إنهم مفتقرون بشكل كبير للمثل المعبئة ، وذلك بدون شك لأن تحويل السياسة إلى حرفة والشروط المطلوبة من أولئك الذين يرومون تحقيق وضعية بداخل الأحزاب يقصيان أكثر فأكثر الأفراد الملهمين ، وبدون شك أيضا لأن تعريف النشاط السياسي تغير مع مجيء الموظفين الذين تعلموا في المدارس ( مدارس العلوم السياسية ) أنه من أجل أن تعمل بجد أو بكل بساطة حتى تتجنب الظهور بمظهر أداة التهييج أو كتحفة قديمة يستحسن التحدث عن التدبير بدل التدبير الذاتي ، وأنه يتوجب في كل الأحوال أن تضفي على ذاتك مظاهر ( أي لغة ) العقلانية الاقتصادية.
إن كل أنصاف الحذاق هؤلاء في مجال الاقتصاد المنغلقين بداخل النزعة الاقتصادية الضيقة والقصيرة النظر لدى نظرة صندوق النقد الدولي FMI للعالم التي أحدثت ( وستحدث ) أضرارا فادحة في علاقات الشمال / جنوب تغفل بطبيعة الحال الأخذ بعين الاعتبار للتكاليف الحقيقية على المدى القصير ، وبخاصة على المدى البعيد للفقر المادي والمعنوي الذي هو العاقبة الوحيدة والمؤكدة للسياسة الواقعية Realpolitik المشرعنة اقتصاديا : انحراف ، جريمة ، إغراق في الكحول ، حوادث الطرق . . . الخ . إن اليد اليمنى هنا أيضا المشغولة بمسألة التوازنات المالية تجهل ما تفعله اليد اليسرى المحتكة والمجابهة بالعواقب الاجتماعية لــ " اقتصاديات الموازنات والميزانيات " المكلفة غاليا في الغالب.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : هل فقدت القيم التي أسست عليها أفعال ومساهمات الدولة كل مصداقية ؟ ..
ب.ب: إن أول من يستخف بهذه القيم هم حراسها ، ولقد فعل مؤتمر رينس Rennes وقانون العفو من أجل إسقاط المصداقية عن الاشتراكيين أكثر مما فعلته عشر سنوات من الحملة ضد الاشتراكيين، ومناضل " مرتد " ( بكل معاني الكلمة ) يحدث من الخسائر أكثر مما يحدثه عشر خصوم. إلا أن عشر سنوات من السلطة الاشتراكية أنجزت بالكامل هدما للإيمان بالدولة وتدميرا للدولة الحامية وقع في السبعينيات باسم الليبرالية ؛ وأشير بذلك على الخصوص لسياسة الإسكان ، فقد كان لهذه السياسة كهدف معلن انتشال البورجوازية الصغيرة من السكنى الجماعية ( وبذلك من " النزعة الجماعية " ) وربطها بالملكية الخاصة لجناحها الفردي أو لشقتها في إطار الملكية المشتركة ، ولم تفعل هذه السياسة بمعنى ما سوى أنها نجحت نجاحا باهرا ، ونتيجتها توضح ما قلته منذ لحظة بخصوص التكاليف الاجتماعية لبعض الاقتصادات ؛ وذلك لأنها بدون شك العلة الكبرى وراء العزل الفضائي ، ومن ثمة وراء ما يسمى مشاكل " الضواحي " .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : إذا ما أردنا تحديد نموذج مثالي فسيكون إذن متمثلا في العودة باتجاه الدولة والشأن العمومي ، إنكم لا تشاطرون جميع الناس آراءهم .
ب.ب:رأي من رأي جميع الناس ؟ .. أهو رأي الأشخاص الذين يكتبون في الصحف والمثقفين الذين يوصون بــ " أقل ما يمكن من الدولة " والذين يدفنون بسرعة ما الشأن العمومي والمصلحة العمومية من أجل العموم . . إن لدينا هاهنا نموذجيا نمطيا لتأثير هذا المعتقد المشترك الذي يضع أطروحات قابلة تماما للمناقشة على الفور خارج إطار النقاش. يتوجب تحليل العمل الجماعي لــ" المثقفين الجدد " الذي خلق مناخا إيجابيا لانسحاب الدولة ، وبشكل واسع ، لإخضاع كل شيء للقيم الاقتصادية ؛ إنني أشير إلى ما سمي " عودة النزعة الفردية " ، وهي ضرب من النبوءة المنجزة ذاتيا تنحو نحو تدمير الأسس الفلسفية للدولة الحامية Welfare State ، وبخاصة مفهوم المسؤولية الجماعية ( في حوادث الشغل والمرض والبؤس ) ، وهي الفتح الأساسي للفكر الاجتماعي ( والسوسيولوجي ) . إن عودة الفرد هي أيضا ما يسمح بـ " توبيخ الضحية " المسؤولة وحدها عن تعاستها ونصحها بالبحث عن سبل الإغاثة الذاتية ، كل ذلك تحت غطاء ضرورة إنقاص تكاليف المقاولة التي يتم تردادها بشكل لا يعرف التوقف.
لقد خلقت ردة فعل الذعر المستعيد للماضي ، والتي حتمت أزمة 68 ، وهي الثورة الرمزية التي خضت كل الحاملين الصغار لرأسمال ثقافي ( إلى جانب الدعامة المتمثلة في الانهيار ـ غير المأمول للأنظمة من النمط السوفياتي ) خلقت الشروط الإيجابية للتشييد الفكري الذي عوض في نهايته " فكر العلوم السياسية " " فكر ماو " .
إن العالم الثقافي اليوم هو مجال صراع يستهدف إنتاج وفرض " مثقفين جدد " ، وإذن تعريفا جديدا للمثقف ودوره السياسي ، تعريفا جديدا للفلسفة والفيلسوف المنخرطين منذ الآن فصاعدا في النقاشات الفضفاضة لفلسفة سياسية بدون فنية {تقنية} ، لعلم اجتماعي مختزل إلى علم سياسة الأمسيات الانتخابية ، ولتعليق غير حذر على استطلاعات الرأي التجارية بدون منهج. لقد كانت لدى أفلاطون كلمة رائعة تنسحب على كل هؤلاء الناس ، وهي فيلسوف الدوكسا Doxosophe : فــ " تقني الرأي هذا الذي يعتقد أنه عارف " ( وأنا هنا أترجم المعنى الثلاثي للكلمة ) يطرح مشاكل السياسة بنفس الألفاظ التي يطرحها بها رجال الأعمال ورجال السياسة والصحافيون السياسيون ( أي بالضبط أولئك الذين يستطيعون أداء ثمن استطلاعات الرأي لصالحهم . . ).
سؤال: لقد أتيت على ذكر أفلاطون ، فهل يقترب سلوك السوسيولوجي من سلوك الفيلسوف؟ ..
ب.ب: إن السوسيولوجي يتعارض مع فيلسوف الرأي Doxosophe {الدوكسوسوفي} في أنه يضع البداهات موضع تساؤل مثلما هو شأن الفيلسوف ، وبخاصة تلك التي تطرح على شكل أسئلة ، أسئلته هو وكذا أسئلة الآخرين ، وذلك ما يصدم بعمق الدوكسوسوفي الذي يرى حكما سياسيا مسبقا في رفض الخضوع السياسي في العمق ، والذي يستلزم القبول اللاشعوري بقواسم مشتركة بالمعنى الأرسطي : أي الموضوعات أو الأطروحات التي تتم بواسطتها عملية الحجاج والبرهنة ولكننا لا نبرهن عليها هي ذاتها.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال : ألا تنحو بمعنى ما نحو إحلال السوسيولوجي محل الفيلسوف ـ الملك الذي يعرف وحده أين تكمن المشاكل الحقيقية؟ ..
ب.ب: إن ما أدافع عنه قبل كل شيء هو إمكانية وضرورة المثقف النقدي والناقد أولا للدوكسا الفكرية التي يفرزها الدوكسوسوفيون ؛ فليست هناك ديمقراطية حقيقية بدون سلطة مضادة نقدية حقيقية ، والمثقف أحد مكونات هذه السلطة المضادة في المقام الأول ، وهذا هو السبب في أنني أعتبر أن فعل تدمير المثقف النقدي ، حيا أو ميتا ، ماركس ، نيتشه ، سارتر ، فوكو ، وبعض الفلاسفة الآخرين الذين نصنفهم تحت يافطة " فكر 68 " ـ هو فعل خطير وبمثل خطورة تدمير الشأن السياسي ويندرج في نفس المسعى الشمولي الرامي لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه.
إنني أود طامعا بطبيعة الحال أن يكون لدى المثقفين كلهم ، وأن يكونوا دائما في مستوى المسؤولية التاريخية الكبرى الملقاة على عاتقهم وأن يجندوا في إطار أفعالهم ونشاطاتهم لا سلطتهم المعنوية وحدها ، وإنما أيضا قدرتهم وكفايتهم الفكرية على طريقة بيير فيدال ناكي ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الذي وظف كامل اقتداره وتحكمه في المنهج التاريخي في نقد الاستخدامات المتعسفة للتاريخ (2). وهذا يعني كمناسبة لذكر كارل كراوس أن " ما بين وجعين ، أرفض أن أختار أخفهما " ، وإذا لم أكن قط متساهلا مع المثقفين " غير المسؤولين " ، فغنني لا أحب أيضا هؤلاء المسؤولين " المثقفين " المتعددي الأشكال والتآليف في ميادين مختلفة الذين يبيضون بضاعتهم السنوية في ما بين مجلسين للإدارة وثلاثة كوكتيلات صحافية وبعض مناسبات الظهور على شاشة التلفزيون .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
سؤال: إذن ما هو الدور الذي تتمنى أن يلعبه المثقفون وخاصة في بناء أوربا ؟ ..
ب.ب: إنني أتمنى أن يستطيع الكتاب والفنانون والفلاسفة والعلماء إسماع أصواتهم مباشرة في مجالات الحياة العامة التي يتميزون بخصوصها بالأهلية. وأعتقد أن الجميع سيربح الكثير من تمدد منطق الحياة الثقافية والفكرية ، أي منطق المحاجة والتفنيد ، وتوسعه ليطال الحياة العامة. إن ما يمتد اليوم في الغالب ليطال الحياة الفكرية هو منطق السياسة ، أي منطق الوشاية والقدح وتحريف أفكار الخصم واعتبارها مجرد شعارات.
الانتقال إلى المستوى الأوربي هو فقط ارتفاع إلى الكونية بدرجة أعلى ؛ تسجيل لمرحلة من مراحل مسيرة الدولة الكونية التي هي أبعد ما تكون عن الإنجاز حتى في مجال الشؤون الفكرية. ونحن لن نربح شيئا ذا بال بالفعل إذا ما جاءت نزعة تمركز أوربية لتحل محل النزعات الوطنية المكلومة للأمم الإمبريالية القديمة. وفي الوقت الذي أفضت فيه كل يوتوبيات القرن 19 بكل أشكال فسادها ، فمن المستعجل خلق ظروف عمل جماعي لإعادة بناء عالم من المثل الواقعية هي كفيلة بتعبئة الإرادات دون مخادعة العقول.
باريس ، ديسمبر 1991 .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
عبير الروح- عضو ماسي
-
عدد المساهمات : 29839
نقاط : 115307
تاريخ التسجيل : 09/02/2010
رد: بيير بورديو (اهم مقالته السوسيولجية)
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
نظرية السلطة الرمزية عند بيير بورديو
1-عناصر أولية تمهيدية
ثمة علاقة جدلية بين الفكر الغربي الحديث ، كفعل تنظيري بجميع ألوانه و تياراته ، و كيفية ممارسته لمفهوم السلطة ، كمفهوم ثقافي و عملي ، هذه الممارسة التي تجاوز بها هذا الفكر الطرح التقليدي و البسيط ، الذي كان سائدا و مهيمنا في الفترة السابقة عليه ، و المرتبط خصوصا بكل ما هو اقتصادي و إداري و سياسي ، في وقت ارتقى فيه هذا الطرح ، إلى مستوى أكثر فعالية و عقلانية و حداثية ، و ذلك بتحيين المنحى المنهجي و المعرفي العميق لمفهوم السلطة ، و محاولة ربطه ربطا محكما ، بكل تجليات و تمظهرات جسد المجتمع ، كبنية متماسكة تعتبر وجوهها الرمزية و المخفية ، أهم و أخطر بكثير من واجهاتها المادية و الظاهرة .
و تجدر الإشارة ، إلى أن هذا التحول النوعي ، الذي شهده التعامل و البحث في مفهوم السلطة ، جاء نتيجة طبيعية لتضافر العديد من العوامل السوسيو اقتصادية و السياسية و الثقافية و الحضارية ، التي كان لها الدور الأساسي و الأكبر في تطور الواقع الغربي المادي المعيشي و الحضاري في جميع ميادين المجتمع الغربي ، سواء تعلق الأمر بالواقع الأمريكي أو الأوروبي ، ذلك التقدم التاريخي و الحضاري الهائل ، الذي كان له التأثير الإيجابي الكبير و العميق على المستوى الفكري و الفلسفي و العلمي ، الأمر الذي أدى إلى ظهور ، في أواخر القرن العشرين ، مجموعة من الأبحاث و الكتابات المتمردة ، على الطرح التقليدي الضيق لمفهوم السلطة ، و أسست لنفسها أفقا أكثر عمقا و عقلانيا .
و يمكن اعتبار المفكر و الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ، من أهم مؤسسي هذا الفهم الجديد لمفهوم السلطة ، و قد عرف باجتهاداته الهامة في مجال البحث الفلسفي الجذري ، خاصة في الطب العيادي و تاريخ الجنون ..، إلى جانب كل من ماكس فيبر و بيير بورديو في مجال الدراسات الاجتماعية و علم الاجتماع الانعكاسي ، و قد حاولت هذه الأبحاث العلمية ، من خلال روادها الأساسيين ، طرح سؤال المنهاج الشامل و الناجع ، و أدوات تحليل الظواهر الاجتماعية و السياسية و الثقافية، لهذا ستأخذ هذه الأعمال على عاتقها ، الانشغال أكثر و الاهتمام بعمق طبيعة العوامل الخفية غير المباشرة ، و المنظومة الرمزية المؤثرة بفعالية في أي مجتمع ، مهما كانت طبيعته و نوعية وضعه العام ، بجميع تجلياته و تشكيلاته . و من خلال مفاهيمها الإجرائية و أدواتها المعرفية و المنهجية ، المتميزة بطابعها الشمولي ، و ببعدها النقدي ، ستحاول هذه الأبحاث الفكرية الغربية الحديثة ، إعادة قراءة العديد من المواضيع الهامة في المجتمع ، و التي يعتبر موضوع التعليم و التربية ، من أهم الأسئلة التي شغلت الكتاب و المنظرين في هذا المجال .
و قد تم تعاملنا مع سؤال المؤسسة التعليمية ، كمنظومة عامة و شاملة و رمزية ، في علاقتها القوية بما يسمى سوسيولوجيا بالعنف الرمزي ، خاصة عند أهم رواده الأساسيين ، و نعني به بيير بورديو ، متسائلين عن مدى نجاعة هذه النظرية المعرفية ، و قيمتها المنهجية و التربوية ، من أجل الأخذ ببعض عناصرها المنهجية ،
1- صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية
لتحديد مفهوم السلطة ..و السلطة الرمزية ، بالضبط ، تنطلق نظرية بورديو من تقسيم العالم الاجتماعي ، إلى مجموعة حقول مستقلة نسبيا ، و فهم هذا العالم الاجتماعي ، يتوقف على البحث بعمق و بجدية كبيرة ، في كيفية اشتغال آليات حقول ذلك العالم الاجتماعي ، من أجل الكشف عن واقعها و طبيعة منطقها الداخلي ، في علاقته الجدلية بمفهوم السلطة . يقول ب.بورديو بهذا الصدد ، في حوار أجرته معه مجلة الفكر العربي المعاصر ، ع 37، دجنبر 1985: ( إن السلطة ليست شيئا متموضعا في مكان ما ، و إنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة ، و نجد أن كل بنية العالم الاجتماعي ، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار ، من أجل فهم آليات الهيمنة و السيطرة ) .إن السلطة إذن ، حسب بورديو ، بمثابة نظام معقد ، يخترق كل العلاقات و الترابطات ، التي تشتغل داخليا ، بواسطة آليات دقيقة و جد فعالة ، تتحكم في البنية العامة ذلك النظام .
بالإضافة إلى أن هذا المنظور المنهجي في التحليل السوسيولوجي عند بورديو ، حريص كل الحرص ، على ربط مفهوم السلطة ، كركن إجرائي جوهري في الفعل التحليلي ، بمفاهيم أخرى ، لا تقل أهمية و قيمة ، من مفهوم السلطة ذاته ، و نذكر من بينها ، مفهوم النسق ، و الحقل ، و اللعب …الخ ، و هي على كل حال ، مفاهيم تستمد أهميتها ، من تصور بورديو للبحث المنهجي و الأداة التحليلية ، المرتبط باستراتيجية كونية و شاملة، مؤسسة على نظام مشروع فكري ، لبناء و دراسة آليات و قوانين اشتغال بنية العالم الاجتماعي ، كما أسلفنا ، تحقيقا لهدف رئيسي ، هو صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية pouvoir symbolique ، إلى جانب الاهتمام بتحليل أنساق أخرى عديدة ، و حقول اجتماعية مختلفة كالدين ، و الفن ، و اللغة ، و السكن ، و اللباس ، و الرياضة ، و الأذواق ، …إلخ .
و انطلاقا من العدد الهائل من الدراسات ، و الأبحاث التطبيقية الميدانية و أيضا النظرية ، التي أنجزها بيير بورديو ، مع الكثير من الدارسين و الباحثين الاجتماعيين الغربيين ، الذين اقتنعوا بالبعد الثوري الواضح ، و فعالية أدوات هذا المنظور المنهجي و التحليلي ، يلاحظ أن السلطة الرمزية ، تستند عنده دوما ، إلى أسلوب التورية و الاختفاء ، و هي لا يمكن أن تحقق تأثيرها المفترض ، و تنفيذها بشكل فعال و إيجابي ، إلا من خلال التعاون الذي يجب أن تلقاه ، من طرف أغلبية الناس المعنيين بها ، و الذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهمية ، و لا يعترفون بها . يقول بورديو بهذا الصدد في ص 52، من كتابه الرمز و السلطة ( إن السلطة الرمزية هي سلطة لامرئية ، و لا يمكن أن تمارَس ، إلا بتواطؤ أولائك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها ، بل و يمارسونها ) .
لهذا ، فتأثير السلطة الرمزية يكون أعمق و أخطر، لسبب بسيط ، يتمثل في كونه يستهدف أساسا البنية النفسية و الذهنية للمتلقين لها ، و بالتالي فهي – أي السلطة الرمزية – تمارس فعلها العميق ، و تخطط من أجل فرض و تحقيق الأهداف المرسومة و المتوخاة ، و إنتاج الأدوات و الآليات و المعايير المناسبة و الناجعة ، لتثبيت و خلق واقع وضع إنساني مرغوب فيه و مخطط له ، و تمارس سلطة الرمز كل هذه الأعمال بطريقة منظمة و بنائية ، و تحت غطاء الخفاء و الاختفاء ، وراء حجاب أقنعة المألوف العادي ، و أنظمة التقليد و القانون و الخطابات الشائعة بين الناس .
2- حول تأسيس مغاير لعلاقة السلطة بمفاهيم أخرى
1- 3 الحقل و اللعب و علاقتهما بالسلطة
إن اعتماد مفهوم الحقل ، في التحليل السوسيولوجي عند بورديو ، هو بمثابة تقنية إجرائية دقيقة و أساسية ، للتفكير بصيغة العلاقات ، أي التفكير على نحو علاقي و جدلى ، بدل التفكير بالطريقة البنيوية الجاهزة و الضيقة الأفق ، كما كانت سائدة و مهيمنة ، في بداية انشغال بورديو بموضوع السلطة الرمزية ( عصر انفجار الفكر البنيوي في أوروبا ) ، لهذا كانت أبحاثه المعرفية و العلمية عامة ، محاولة منه لتصحيح مسار فكري و فلسفي اقتنع به ، و مارسه بنقد و هدم الفكر السائد ، و تأسيس الفكر الفعال و البديل .
يتشكل الحقل ، حسب بورديو ، من جملة علاقات موضوعية ، القائمة بين مجموعة من الأوضاع ، التي تحدد في وجودها بمحتليها ، و هؤلاء المحتلون لتلك الأوضاع ، إما أن يكونوا فاعلين أو مؤسسات ، حسب موقعهم الحالي أو المحتمل ، في بنية توزيع مختلف أنواع السلطة ( الرأسمال ) التي يتطلب امتلاكها بلوغ الأرباح الخاصة ، و هي شرط أساسي و مهم لتحقيق لعب متواز بين القوى الفاعلة في الحقل ، و في الآن ذاته ، بواسطة علاقتهم الموضوعية بالأوضاع الأخرى ( سيطرة ، تبعية ، تطابق ..إلخ ) .
كما يرتبط مفهوم الحقل ، بمفهوم الرأسمال ارتباطا وثيقا ، من خلال التأكيد على أبعاده الثقافية و الاقتصادية ، كقوة لها سلطة فعالة رمزية للقدرة على السيطرة على فضاء اللعب ، في الحقل المعني ، و الذي من الطبيعي أن يشهد بدوره ، حركية داخلية مهمة و اشتغالا ديناميا محكما ، سيؤدي فيما بعد ، إلى نشوء نزاعات و التي ستتراكم و تختمر، لتنفجر في المرحلة الموالية ، على شكل صراعات بين هذه القوى الفاعلة داخل حقل اللعب ( سواء كان لعبا طبيعيا أو سياسيا ، أو اجتماعيا أو فكريا أو دينيا أو ثقافيا أو حضاريا …إلخ ) ، و ذلك بهدف الدفاع عن المكتسبات السابقة للقوى المتصارعة و الاحتفاظ عليها قدر الإمكان ، أو تحويل تشكل تلك القوى لصياغة خريطة جديدة ، تتناسب و وضع اللعب الجديد .
و لكي تتضح ملامح دلالة مفهوم الحقل ، كما يتصوره بورديو ، و يعمل به في تحاليله الاجتماعية ، يمكننا تقديم مثال عن حقل السلطة ، و هو المثال الذي كثيرا ما يتشهد به في كتاباته النظرية تقريبا لهذا المفهوم . فما المقصود بحقل السلطة عند كاتبنا و ما هي مميزاته ؟
* إنه حقل قوى محددة ، في بنيته ، بحالة علاقة القوة بين أشكال من السلطة أو أنواع مختلفة من الرأسمال .
* هو حقل صراعات من أجل السلطة و السيطرة و الهيمنة بين مالكي سلطات متباينة .
* إنه فضاء للعب ، يتواجه فيه فاعلون و مؤسسات ، يشتركون في امتلاك كم معين من الرأسمال الخاص ( ثقافي ، اقتصادي ..) ، و الغاية من تلك المواجهة ، هي تحقيق الرغبة في احتلال أوضاع مسيطرة في حقولهم الخاصة و العمل على تحريرها ( الحقل الاقتصادي ، و حقل الإدارة العليا للدولة ، الحقل الأكاديمي ، الحقل الفكري ) ، كما تهدف تلك المواجهة ، إلى الاحتفاظ بعلاقة القوة تلك أو محاولة تحويلها .
* الهدف من صراع القوى السابق هو فرض مبدأ السيطرة ( سيطرة المسيطر ) ، الذي يمكن أن يصل في أية لحظة إلى حالة من التوازن ، ليتمكن بالتالي من اقتسام السلط فيما بينه و بين المتنازع الآخر ، أي تقسيم عمل السيطرة .
* هو أيضا صراع و نزاع من أجل فرض مبدأ الشرعنة ( المشروعية ) ، أي إضفاء المشروعية و المصداقية ، على وضعية السيطرة المنفذة، إلى جانب الحفاظ على نمط إعادة الإنتاج المشروع ، لأسس السيطرة المحققة .
و نشير الآن إلى أهم أنواع المجابهات و الصراعات و الأشكال التي يمكن أن تتخذها :
أ - مواجهات واقعية ( حروب القصر )
ب- مواجهات مسلحة ( بين السلطات الزمنية و السلطات الروحية )
ج – مواجهات رمزية ( صراعات فكرية ) .
2- 3 حول علاقة نظرية الأنساق بنظرية الحقول
إن مفهوم الحقل عند بورديو ، يعمل على استبعاد كليا الطابع الآلي ، الذي يتميز به مفهوم الجهاز ، و تبعا لذلك يكون قد استبعد النظرية الوظيفية التي سبق أن انتقدها في العديد من كتاباته ، و بشكل يكاد يكون أحيانا قاسيا و عنيفا ، و ازداد أكثر قربا و التحاما بالتاريخ و الفهم الجدلي للمجتمع . بالإضافة إلى أن الحقول ، كما هو واضح من خلال الفقرة السابقة ، لا تقوم على أجزاء أو مكونات ، بل هي تبدو فرعية ، لها منطقها الداخلي الخاص ، و انتظاماتها الخاصة . لهذا يرى بورديو ، و هو رأي كثيرا ما أورده و أكد عليه في العديد من كتاباته ، أن الحقل هو لعب أعقد بكثير من كل الألعاب ، التي يمكن أن يتخيلها المرء .
4 – تحليل و دراسة حقل معين من حيث الخصائص و المراحل
يميز بورديو بين ثلاثة لحظات أساسية لدراسة و تحليل حقل من الحقول ، وهي :
1 – 4 لحظة تحليل وضع الحقل إزاء حقل السلطة
إن الحقل متضمن دائما ، بجميع علاقاته الموضوعية و الصراعية ، داخل حقل أوسع منه ، هو حقل السلطة . فالحقل الأدبي مثلا في المغرب متضمن في حقل السلطة ، بمعنى أن كل الكتاب و المثقفين بشكل عام ، هم فئة من شرائح المجتمع المغربي ، التي تنتمي إلى الشق المهيمن ( بفتح الميم ) عليه من طرف الطبقة المسيطرة .
2 – 4 لحظة تحديد البنية الموضوعية ، للعلاقات بين الأوضاع المحتلة ، من لدن الفاعلين أو المؤسسات ، الذين يتنافسون و يتصارعون داخل ذلك الحقل ، من أجل فرض السلطة ، و الحفاظ على السيطرة .
3 – 4 لحظة تحليل سموت ( استعدادات ) الفاعلين ، التي اكتسبوها في إطار تواجدهم ، ضمن شروط الحقل المعني الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي و السياسي .
إن المؤلف الذي لا يراعي ، أثناء تحليله لحقل معين ، المراحل و اللحظات التحليلية السابقة ، و بنفس الأولوية الترتيبية ، لن يكون معنى للتحليل الذي أنجزه ، عند بورديو ، و لا يسمح له أن يزعم أنه مارس تحليلا يذكر ، أو درس موضوعه الدرس المنتظر منه ، و بالتالي لا يستحق أن يكون مؤلفا ، حسب بورديو دائما ، لأن هذا الأخير ( المؤلف) ينبغي عنده أن يكون ذاتا محللة فاعلة ، على النحو العلمي الاجتماعي ، كما حدده أعلاه ، و أن المهم في التحليل الاجتماعي الخلاق ، ليس عرض الإشكالات و وصف البنيات و تقديم المعلومات ، رغم الأهمية النسبية لهذا الجانب من المعرفة ، و إنما المهم و الأساس عند بورديو هو البحث و التنقيب في أسئلة الحقل ، و دراسة التفاعلات فيه ، و إثارة أكبر ما يمكن من إشكالاته ، و بالتالي يكون بذلك ، قد وصل إلى شط الأستاذية .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
نظرية السلطة الرمزية عند بيير بورديو
1-عناصر أولية تمهيدية
ثمة علاقة جدلية بين الفكر الغربي الحديث ، كفعل تنظيري بجميع ألوانه و تياراته ، و كيفية ممارسته لمفهوم السلطة ، كمفهوم ثقافي و عملي ، هذه الممارسة التي تجاوز بها هذا الفكر الطرح التقليدي و البسيط ، الذي كان سائدا و مهيمنا في الفترة السابقة عليه ، و المرتبط خصوصا بكل ما هو اقتصادي و إداري و سياسي ، في وقت ارتقى فيه هذا الطرح ، إلى مستوى أكثر فعالية و عقلانية و حداثية ، و ذلك بتحيين المنحى المنهجي و المعرفي العميق لمفهوم السلطة ، و محاولة ربطه ربطا محكما ، بكل تجليات و تمظهرات جسد المجتمع ، كبنية متماسكة تعتبر وجوهها الرمزية و المخفية ، أهم و أخطر بكثير من واجهاتها المادية و الظاهرة .
و تجدر الإشارة ، إلى أن هذا التحول النوعي ، الذي شهده التعامل و البحث في مفهوم السلطة ، جاء نتيجة طبيعية لتضافر العديد من العوامل السوسيو اقتصادية و السياسية و الثقافية و الحضارية ، التي كان لها الدور الأساسي و الأكبر في تطور الواقع الغربي المادي المعيشي و الحضاري في جميع ميادين المجتمع الغربي ، سواء تعلق الأمر بالواقع الأمريكي أو الأوروبي ، ذلك التقدم التاريخي و الحضاري الهائل ، الذي كان له التأثير الإيجابي الكبير و العميق على المستوى الفكري و الفلسفي و العلمي ، الأمر الذي أدى إلى ظهور ، في أواخر القرن العشرين ، مجموعة من الأبحاث و الكتابات المتمردة ، على الطرح التقليدي الضيق لمفهوم السلطة ، و أسست لنفسها أفقا أكثر عمقا و عقلانيا .
و يمكن اعتبار المفكر و الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ، من أهم مؤسسي هذا الفهم الجديد لمفهوم السلطة ، و قد عرف باجتهاداته الهامة في مجال البحث الفلسفي الجذري ، خاصة في الطب العيادي و تاريخ الجنون ..، إلى جانب كل من ماكس فيبر و بيير بورديو في مجال الدراسات الاجتماعية و علم الاجتماع الانعكاسي ، و قد حاولت هذه الأبحاث العلمية ، من خلال روادها الأساسيين ، طرح سؤال المنهاج الشامل و الناجع ، و أدوات تحليل الظواهر الاجتماعية و السياسية و الثقافية، لهذا ستأخذ هذه الأعمال على عاتقها ، الانشغال أكثر و الاهتمام بعمق طبيعة العوامل الخفية غير المباشرة ، و المنظومة الرمزية المؤثرة بفعالية في أي مجتمع ، مهما كانت طبيعته و نوعية وضعه العام ، بجميع تجلياته و تشكيلاته . و من خلال مفاهيمها الإجرائية و أدواتها المعرفية و المنهجية ، المتميزة بطابعها الشمولي ، و ببعدها النقدي ، ستحاول هذه الأبحاث الفكرية الغربية الحديثة ، إعادة قراءة العديد من المواضيع الهامة في المجتمع ، و التي يعتبر موضوع التعليم و التربية ، من أهم الأسئلة التي شغلت الكتاب و المنظرين في هذا المجال .
و قد تم تعاملنا مع سؤال المؤسسة التعليمية ، كمنظومة عامة و شاملة و رمزية ، في علاقتها القوية بما يسمى سوسيولوجيا بالعنف الرمزي ، خاصة عند أهم رواده الأساسيين ، و نعني به بيير بورديو ، متسائلين عن مدى نجاعة هذه النظرية المعرفية ، و قيمتها المنهجية و التربوية ، من أجل الأخذ ببعض عناصرها المنهجية ،
1- صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية
لتحديد مفهوم السلطة ..و السلطة الرمزية ، بالضبط ، تنطلق نظرية بورديو من تقسيم العالم الاجتماعي ، إلى مجموعة حقول مستقلة نسبيا ، و فهم هذا العالم الاجتماعي ، يتوقف على البحث بعمق و بجدية كبيرة ، في كيفية اشتغال آليات حقول ذلك العالم الاجتماعي ، من أجل الكشف عن واقعها و طبيعة منطقها الداخلي ، في علاقته الجدلية بمفهوم السلطة . يقول ب.بورديو بهذا الصدد ، في حوار أجرته معه مجلة الفكر العربي المعاصر ، ع 37، دجنبر 1985: ( إن السلطة ليست شيئا متموضعا في مكان ما ، و إنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة ، و نجد أن كل بنية العالم الاجتماعي ، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار ، من أجل فهم آليات الهيمنة و السيطرة ) .إن السلطة إذن ، حسب بورديو ، بمثابة نظام معقد ، يخترق كل العلاقات و الترابطات ، التي تشتغل داخليا ، بواسطة آليات دقيقة و جد فعالة ، تتحكم في البنية العامة ذلك النظام .
بالإضافة إلى أن هذا المنظور المنهجي في التحليل السوسيولوجي عند بورديو ، حريص كل الحرص ، على ربط مفهوم السلطة ، كركن إجرائي جوهري في الفعل التحليلي ، بمفاهيم أخرى ، لا تقل أهمية و قيمة ، من مفهوم السلطة ذاته ، و نذكر من بينها ، مفهوم النسق ، و الحقل ، و اللعب …الخ ، و هي على كل حال ، مفاهيم تستمد أهميتها ، من تصور بورديو للبحث المنهجي و الأداة التحليلية ، المرتبط باستراتيجية كونية و شاملة، مؤسسة على نظام مشروع فكري ، لبناء و دراسة آليات و قوانين اشتغال بنية العالم الاجتماعي ، كما أسلفنا ، تحقيقا لهدف رئيسي ، هو صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية pouvoir symbolique ، إلى جانب الاهتمام بتحليل أنساق أخرى عديدة ، و حقول اجتماعية مختلفة كالدين ، و الفن ، و اللغة ، و السكن ، و اللباس ، و الرياضة ، و الأذواق ، …إلخ .
و انطلاقا من العدد الهائل من الدراسات ، و الأبحاث التطبيقية الميدانية و أيضا النظرية ، التي أنجزها بيير بورديو ، مع الكثير من الدارسين و الباحثين الاجتماعيين الغربيين ، الذين اقتنعوا بالبعد الثوري الواضح ، و فعالية أدوات هذا المنظور المنهجي و التحليلي ، يلاحظ أن السلطة الرمزية ، تستند عنده دوما ، إلى أسلوب التورية و الاختفاء ، و هي لا يمكن أن تحقق تأثيرها المفترض ، و تنفيذها بشكل فعال و إيجابي ، إلا من خلال التعاون الذي يجب أن تلقاه ، من طرف أغلبية الناس المعنيين بها ، و الذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهمية ، و لا يعترفون بها . يقول بورديو بهذا الصدد في ص 52، من كتابه الرمز و السلطة ( إن السلطة الرمزية هي سلطة لامرئية ، و لا يمكن أن تمارَس ، إلا بتواطؤ أولائك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها ، بل و يمارسونها ) .
لهذا ، فتأثير السلطة الرمزية يكون أعمق و أخطر، لسبب بسيط ، يتمثل في كونه يستهدف أساسا البنية النفسية و الذهنية للمتلقين لها ، و بالتالي فهي – أي السلطة الرمزية – تمارس فعلها العميق ، و تخطط من أجل فرض و تحقيق الأهداف المرسومة و المتوخاة ، و إنتاج الأدوات و الآليات و المعايير المناسبة و الناجعة ، لتثبيت و خلق واقع وضع إنساني مرغوب فيه و مخطط له ، و تمارس سلطة الرمز كل هذه الأعمال بطريقة منظمة و بنائية ، و تحت غطاء الخفاء و الاختفاء ، وراء حجاب أقنعة المألوف العادي ، و أنظمة التقليد و القانون و الخطابات الشائعة بين الناس .
2- حول تأسيس مغاير لعلاقة السلطة بمفاهيم أخرى
1- 3 الحقل و اللعب و علاقتهما بالسلطة
إن اعتماد مفهوم الحقل ، في التحليل السوسيولوجي عند بورديو ، هو بمثابة تقنية إجرائية دقيقة و أساسية ، للتفكير بصيغة العلاقات ، أي التفكير على نحو علاقي و جدلى ، بدل التفكير بالطريقة البنيوية الجاهزة و الضيقة الأفق ، كما كانت سائدة و مهيمنة ، في بداية انشغال بورديو بموضوع السلطة الرمزية ( عصر انفجار الفكر البنيوي في أوروبا ) ، لهذا كانت أبحاثه المعرفية و العلمية عامة ، محاولة منه لتصحيح مسار فكري و فلسفي اقتنع به ، و مارسه بنقد و هدم الفكر السائد ، و تأسيس الفكر الفعال و البديل .
يتشكل الحقل ، حسب بورديو ، من جملة علاقات موضوعية ، القائمة بين مجموعة من الأوضاع ، التي تحدد في وجودها بمحتليها ، و هؤلاء المحتلون لتلك الأوضاع ، إما أن يكونوا فاعلين أو مؤسسات ، حسب موقعهم الحالي أو المحتمل ، في بنية توزيع مختلف أنواع السلطة ( الرأسمال ) التي يتطلب امتلاكها بلوغ الأرباح الخاصة ، و هي شرط أساسي و مهم لتحقيق لعب متواز بين القوى الفاعلة في الحقل ، و في الآن ذاته ، بواسطة علاقتهم الموضوعية بالأوضاع الأخرى ( سيطرة ، تبعية ، تطابق ..إلخ ) .
كما يرتبط مفهوم الحقل ، بمفهوم الرأسمال ارتباطا وثيقا ، من خلال التأكيد على أبعاده الثقافية و الاقتصادية ، كقوة لها سلطة فعالة رمزية للقدرة على السيطرة على فضاء اللعب ، في الحقل المعني ، و الذي من الطبيعي أن يشهد بدوره ، حركية داخلية مهمة و اشتغالا ديناميا محكما ، سيؤدي فيما بعد ، إلى نشوء نزاعات و التي ستتراكم و تختمر، لتنفجر في المرحلة الموالية ، على شكل صراعات بين هذه القوى الفاعلة داخل حقل اللعب ( سواء كان لعبا طبيعيا أو سياسيا ، أو اجتماعيا أو فكريا أو دينيا أو ثقافيا أو حضاريا …إلخ ) ، و ذلك بهدف الدفاع عن المكتسبات السابقة للقوى المتصارعة و الاحتفاظ عليها قدر الإمكان ، أو تحويل تشكل تلك القوى لصياغة خريطة جديدة ، تتناسب و وضع اللعب الجديد .
و لكي تتضح ملامح دلالة مفهوم الحقل ، كما يتصوره بورديو ، و يعمل به في تحاليله الاجتماعية ، يمكننا تقديم مثال عن حقل السلطة ، و هو المثال الذي كثيرا ما يتشهد به في كتاباته النظرية تقريبا لهذا المفهوم . فما المقصود بحقل السلطة عند كاتبنا و ما هي مميزاته ؟
* إنه حقل قوى محددة ، في بنيته ، بحالة علاقة القوة بين أشكال من السلطة أو أنواع مختلفة من الرأسمال .
* هو حقل صراعات من أجل السلطة و السيطرة و الهيمنة بين مالكي سلطات متباينة .
* إنه فضاء للعب ، يتواجه فيه فاعلون و مؤسسات ، يشتركون في امتلاك كم معين من الرأسمال الخاص ( ثقافي ، اقتصادي ..) ، و الغاية من تلك المواجهة ، هي تحقيق الرغبة في احتلال أوضاع مسيطرة في حقولهم الخاصة و العمل على تحريرها ( الحقل الاقتصادي ، و حقل الإدارة العليا للدولة ، الحقل الأكاديمي ، الحقل الفكري ) ، كما تهدف تلك المواجهة ، إلى الاحتفاظ بعلاقة القوة تلك أو محاولة تحويلها .
* الهدف من صراع القوى السابق هو فرض مبدأ السيطرة ( سيطرة المسيطر ) ، الذي يمكن أن يصل في أية لحظة إلى حالة من التوازن ، ليتمكن بالتالي من اقتسام السلط فيما بينه و بين المتنازع الآخر ، أي تقسيم عمل السيطرة .
* هو أيضا صراع و نزاع من أجل فرض مبدأ الشرعنة ( المشروعية ) ، أي إضفاء المشروعية و المصداقية ، على وضعية السيطرة المنفذة، إلى جانب الحفاظ على نمط إعادة الإنتاج المشروع ، لأسس السيطرة المحققة .
و نشير الآن إلى أهم أنواع المجابهات و الصراعات و الأشكال التي يمكن أن تتخذها :
أ - مواجهات واقعية ( حروب القصر )
ب- مواجهات مسلحة ( بين السلطات الزمنية و السلطات الروحية )
ج – مواجهات رمزية ( صراعات فكرية ) .
2- 3 حول علاقة نظرية الأنساق بنظرية الحقول
إن مفهوم الحقل عند بورديو ، يعمل على استبعاد كليا الطابع الآلي ، الذي يتميز به مفهوم الجهاز ، و تبعا لذلك يكون قد استبعد النظرية الوظيفية التي سبق أن انتقدها في العديد من كتاباته ، و بشكل يكاد يكون أحيانا قاسيا و عنيفا ، و ازداد أكثر قربا و التحاما بالتاريخ و الفهم الجدلي للمجتمع . بالإضافة إلى أن الحقول ، كما هو واضح من خلال الفقرة السابقة ، لا تقوم على أجزاء أو مكونات ، بل هي تبدو فرعية ، لها منطقها الداخلي الخاص ، و انتظاماتها الخاصة . لهذا يرى بورديو ، و هو رأي كثيرا ما أورده و أكد عليه في العديد من كتاباته ، أن الحقل هو لعب أعقد بكثير من كل الألعاب ، التي يمكن أن يتخيلها المرء .
4 – تحليل و دراسة حقل معين من حيث الخصائص و المراحل
يميز بورديو بين ثلاثة لحظات أساسية لدراسة و تحليل حقل من الحقول ، وهي :
1 – 4 لحظة تحليل وضع الحقل إزاء حقل السلطة
إن الحقل متضمن دائما ، بجميع علاقاته الموضوعية و الصراعية ، داخل حقل أوسع منه ، هو حقل السلطة . فالحقل الأدبي مثلا في المغرب متضمن في حقل السلطة ، بمعنى أن كل الكتاب و المثقفين بشكل عام ، هم فئة من شرائح المجتمع المغربي ، التي تنتمي إلى الشق المهيمن ( بفتح الميم ) عليه من طرف الطبقة المسيطرة .
2 – 4 لحظة تحديد البنية الموضوعية ، للعلاقات بين الأوضاع المحتلة ، من لدن الفاعلين أو المؤسسات ، الذين يتنافسون و يتصارعون داخل ذلك الحقل ، من أجل فرض السلطة ، و الحفاظ على السيطرة .
3 – 4 لحظة تحليل سموت ( استعدادات ) الفاعلين ، التي اكتسبوها في إطار تواجدهم ، ضمن شروط الحقل المعني الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي و السياسي .
إن المؤلف الذي لا يراعي ، أثناء تحليله لحقل معين ، المراحل و اللحظات التحليلية السابقة ، و بنفس الأولوية الترتيبية ، لن يكون معنى للتحليل الذي أنجزه ، عند بورديو ، و لا يسمح له أن يزعم أنه مارس تحليلا يذكر ، أو درس موضوعه الدرس المنتظر منه ، و بالتالي لا يستحق أن يكون مؤلفا ، حسب بورديو دائما ، لأن هذا الأخير ( المؤلف) ينبغي عنده أن يكون ذاتا محللة فاعلة ، على النحو العلمي الاجتماعي ، كما حدده أعلاه ، و أن المهم في التحليل الاجتماعي الخلاق ، ليس عرض الإشكالات و وصف البنيات و تقديم المعلومات ، رغم الأهمية النسبية لهذا الجانب من المعرفة ، و إنما المهم و الأساس عند بورديو هو البحث و التنقيب في أسئلة الحقل ، و دراسة التفاعلات فيه ، و إثارة أكبر ما يمكن من إشكالاته ، و بالتالي يكون بذلك ، قد وصل إلى شط الأستاذية .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
عبير الروح- عضو ماسي
-
عدد المساهمات : 29839
نقاط : 115307
تاريخ التسجيل : 09/02/2010
رد: بيير بورديو (اهم مقالته السوسيولجية)
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
مفهوم "الحقل" عند بيير بورديو: القوة الإجرائية و الفعالية الاستكشافية.
يخلد الفلاسفة بمفاهيمهم، و العلماء أيضا، بل إن العالم يتحول في آخر المطاف إلى إنسان مقترن بمجموعة من المفاهيم صيغت في شكل قوانين. و يخلد المفهوم الفيلسوف باعتبار المفهوم في جوهره تورطا و ارتطاما بالعالم و قضاياه، و بالضبط بقضايا الإنسان في علاقته بالإنسان. و التورط و الارتطام قد يكونان بالمعنى الإيجابي و قد يكونان بالمعنى السلبي، و السلبي و الإيجابي يدركان طبعا انطلاقا من شرط من يرى و يدرك. و حين يتمكن الفيلسوف من بناء مفهوم ما بهذا المعنى) وهي عملية في غاية الصعوبة و إلا لكان كثير من الناس فلاسفة (، يولد المفهوم و ينفصل عن صاحبه، و يصبح ملكا لكل قادر على التورط أو إعادة التورط به. و هنا يكمن سر تخليده للفيلسوف الذي أبدعه. أما سر تخليد المفهوم للعالم، فالواضح أنه أشسع من سر تخليده للفيلسوف خصوصا حين يتعلق الأمر بالمفاهيم المرتبطة بقضايا الإنسان، إذ إلى جانب كون المفهوم هنا تورطا و ارتطاما بالعالم و قضاياه يستثمره آخرون، فإن المفهوم في العلم يعتبر أداة للكشف و الاستقراء و النبش و السبر و التفكيك )تفكيك الوقائع طبعا( ...، يستمر اعتمادها) الأداة( بالتناسب مع حجم قوتها و فعاليتها، وما دام العلم لم يتمكن بعد من بناء مفهوم آخر أكثر قوة و فعالية.
و القارئ الذي تابع و تفحص الأعمال العلمية الكبرى لعالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو Pierre Bourdieu ، لابد أن يلاحظ كونها تمحورت حول مفاهيم كبرى اخترقت قوتها الثقافات و التخصصات و الحدود و اللغات، و باتت ملكا للكثيرين خلال حياته و اليوم بعد رحيله )أليست ضامنة لخلوده؟(، و نخص بالذكر مفاهيم "إعادة الإنتاج"La reproduction، و "العنف الرمزي"La violence symbolique، و "الهابيتوس" Habitus،) و مما له الكثير من المعنى أن لا نعثر له على مقابل متماسك في العديد من اللغات و يتم استعماله على نطاق واسع بلغته الأصلية (، و "الرأسمال الرمزي"Capital symbolique ، و "الخيرات الرمزية"Biens symboliques ، و "سوق الخيرات الرمزيةMarché des biens symboliques ، و "الطبع"Inculcation ، و"النبلاء الجدد"La nouvelle noblesse، و"الميكروكوزم"Le microcosme و "الحقل"Le champ...
و ما يهمني أساسا في هذه الدراسة هو هذا المفهوم الأخير، أي مفهوم "الحقل".و الحال أنه في غاية الصعوبة الإحاطة بكل المفاهيم التي أبدعها و تورط بها بورديو لأن لكل منها سياق تورطه و منطقه و رهاناته و سيرورة انبنائه .
1- مفهوم "الحقل" عند بورديو:
تلزم الإشارة أولا إلى كون معنى "إبداع" المفاهيم في العلم ( و في الفلسفة أيضا) لا يحيل بالضرورة إلى معنى الخلق أو النحت لأول مرة، أي بالمعنى الذي يدفع إلى الاعتقاد أن الكلمة/المفهوم لم تكن موجودة أصلا و لا يبدأ وجودها إلا مع وجود الفيلسوف أو العالم !!، لا ليس الأمر كذلك، لأن الكثير من المفاهيم العلمية (حتى في مجال العلوم الدقيقة) تكون في الغالب مألوفة في اللغة العادية (و لا أقول العامية)، و لكن ككلمات لا أكثر( أي ليس كمفاهيم) . فمفهوم "الجاذبية " قبل أن يصبح مفهوما علميا تفسر به ظواهر الكون كان كلمة عادية تضاف إلى حديقة أو لوحة أو امرأة للتعبير عن جمالها الفادح. و نفس الحال بالنسبة لمفهوم "الحقل" عند بورديو الذي انتزعه من الاستعمال العادي الذي يفيد قطعة أرض قد تمتد و قد تقصر، أو في الاستعمالات الحديثة: مجالا لتربية الدواجن أو الأسماك أو غيرها...، ليبنيه مفهوما علميا للتورط و الكشف و الخلخلة. يحيل مفهوم الحقل عند بورديو إلى عالم اجتماعي كامل "Tout un monde social "، أي بكل المواصفات و التقاطيع التي يشير إليها العالم الاجتماعي: يتعلق الأمر بسلطة و رأسمال و علاقات قوة و صراعات من أجل المحافظة أو من أجل تغيير علاقات القوة القائمة، و باستراتيجيات للمحافظة أو للخلخلة...الخ، كما في باقي المجالات الاجتماعية. و من جهة أخرى، و في نفس الوقت عالم خاص له قوانين اشتغاله الخاصة( 1). هذا هو معنى الحقل الثقافي عند بورديو، و هو المعنى الذي ما انفك يطوره على امتداد مشواره العلمي الطويل الممتد من نهاية الستينات و بالضبط من ثورة الطلاب الشهيرة إلى مشارف القرن الواحد و العشرين. أثار بورديو مفهوم "الحقل" في مقالات عديدة أولا، ثم قدم تركيبا في كتابه "الرأسمال الرمزي". و عاد للمفهوم بقوة في كتاب ضخم هو" قواعد الفن"(2) ، ثم ارتقى في عملية التركيب و الصياغة في آخر درس له بكوليج دو فرانس( أي بعد مدة طويلة من بداية ورش بناء المفهوم) ، و هو الدرس الذي نشر تحت عنوان مشهور عند السوسيولوجيين و النقاد الأدبيين و الأنتروبولوجيين و غيرهم(3) . ثم عاد في نهاية مشواره ليقدم لنا المنتوج و قد اكتمل بنيانه، أي المفهوم و قد انقطعت صلته بالمعنى الاستعمالي العادي ليغدو أداة للتورط و الحفر و النبش و الفهم و التفسير فعالة و في أعلى درجات القوة الإجرائية، أي قابل لأن يستخدمه الآخرون للتحليل و الفهم و فك ألغاز و طلاسم الواقع الاجتماعي( و المقصود هنا هو طلاسم الحقل الثقافي).
و لكي يقربنا بورديو أكثر من مفهوم "الحقل"، ينتقد كلا من ميشيل فوكو و الشكلانيين الروس في فهمهم لمنطق اشتغال "الثقافي": ينتقد فوكو أولا، فيكشف كون هذا الأخير بقي وفيا للتقليد الديسوسوري( نسبة إلى دي سوسير) ، حين ينتهي إلى التأكيد على الاستقلالية المطلقة ل: "حقل الإمكانيات الإستراتيجية" الذي يسميه "الإبستيمية"( Epistémè ، و يستدعي بورديو فيدغتشطاينWittgenstein في تذكيره بكون الحقائق الرياضية ليست جواهر خالدة تخرج مسلحة بالكامل من الدماغ البشري ، و إنما هي المنتوجات التاريخية لنوع من العمل التاريخي المنجز تبعا للقواعد و الضوابط الخاصة بهذا العالم الاجتماعي الخاص الذي هو الحقل العلمي(4) .
ثم يؤكد بورديو أن نفس النقد يبقى صالحا ضد الشكلانيين الروس، الذين لا يـأخذون في الحسبان سوى نسق الأعمال [الفكرية] ، أي شبكة العلاقات بين النصوص أو العلاقات البين-نصية intertextualité،و مثلهم في ذلك مثل فوكو، يجدون أنفسهم مضطرين للعثور داخل نسق النصوص ذاته على مبدأ ديناميته(5). أليس ذلك ما يقوله تينيانوفTynianov عن النسق الأدبي، ثم أليس ذلك جوهر أطروحة فوكو بالنسبة للعلوم؟
يحلل التأويل البنيوي الأعمال الثقافية ( اللغة، الأساطير...، ثم الأعمال الفنية) كبنيات مبنينة )Structures structurées( دون ذوات مبنينة )des sujets structurants( و التي هي كما الحال بالنسبة للغة الديسوسورية إنجازات تاريخية خاصة، و يلزم-إذن- تفكيك رموزها على أساس أنها كذلك، و لكن دون أدنى رجوع للشروط الاقتصادية أو الاجتماعية لإنتاج العمل الثقافي أو لمنتجيه(6).
و ضمن تحديده ل مفهوم الحقل، يتنقل بورديو إلى تناول التحليل الخارجي( المنتوجات الرمزية)، و الذي يفكر في العلاقة بين العالم الاجتماعي Le monde social و الأعمال الثقافية ضمن منطق الانعكاس، فيربط –ميكانيكيا- الأعمال الفكرية بالخصائص الاجتماعية للمؤلفين( بأصولهم الاجتماعية)، أو للمجموعات الحقيقية أو المفترضة التي توجه لهم تلك الأعمال، و الذين يفترض أن تجيب على انتظاراتهم(7).
ثم يتناول التحليل الإحصائي الذي يبحث عن بناء الخصائص الإحصائية لجمهور الكتاب خلال فترات مختلفة أو عند فئات مختلفة منهم( مدارس، أجناس...الخ)
خلال فترة معينة، و يبين بورديو أن هذا النمط من التحليل ليس أكثر صلاحية، فهو ينطبق في الغالب على جمهور[ كتاب ] مبني مسبقا بمبادئ للترتيب هي الأخرى مبنية سلفا. ولإعطائه الحد الأدنى من الصرامة و الدقة، يلزم أولا –كما قام بذلك فرانسيس هاسكل Francis Haskell بالنسبة لفن الرسم – دراسة سيرورة تكوين لوائح المؤلفين الذين يشتغل عليهم الإحصائي، أي عملية سن المبادئ و القواعد التي تمكن من التمييز بين الفئات التي تتحكم في بناء التراتب الذي يؤدي إلى تحديد جمهور الكتاب المعترف بهم في لحظة تاريخية معينة. و من جهة أخرى، يلزم دراسة نشوء و تشكل أنساق الترتيب و تحديد العصور و "الأجيال" و "المدارس" و "الاتجاهات" و الأجناس...الخ التي تستعمل في التصنيفات الإحصائية و التي هي واقع أدوات و رهانات الصراع.
ليست المسألة إذن بالبساطة التي يعتقد الكثيرون، فقراءة حال حقل ثقافي معين من أصعب المهام على الإطلاق، و النقد الأدبي أو النقد عموما ليس بالمعنى المبتذل و المبسط الشائع، بل هو مهمة شاقة إلى أبعد الحدود، إذ في غياب تلك الجينيالوجيا التي يضع بورديو إجراءاتها و خطواتها الضرورية، نعرض أنفسنا لخطر الحسم في المشكلة على المستوى البحثي بينما هي لا زالت قائمة على مستوى الواقع : مثلا حدود جمهور الكتّاب أي حدود الكتاب المعترف بهم من طرف الأكثر شهرة منهم، أولئك الذين لايتردد كبار الناشرين في نشر "أعمالهم"مهما كان مستوى جودتها ، و تفرد لهم الصحف الكبرى مساحة خاصة متميزة، و يتسابق الصغار المتزلفون لنشر قراءات لأعمالهم يرسمونهم فيها – تزييفا ونفخا- آلهة أو أوثانا، ليستمدوا فتات رمزية منهم. مما يعطي لهؤلاء الأكثر شهرة الحق في الادعاء بأنهم كتاب. ينطبق ذلك على الروائيين كما ينطبق على الشعراء و المؤرخين و المحللين السياسيين و الجغرافيين و السوسيولوجيين، و كل المشتغلين بكل الحقول المعرفية.
و ينتهي بورديو إلى أن الدراسات الأكثر نموذجية لنمط التحليل الخارجي و التي يغيب عنها معنى الحقل و منطق اشتغاله، هي الدراسات ذات النفحة الماركسية التي من خلال كتاب مختلفين ك : لوكا تش Lukacs أو غولدمانGoldmann و بوركونوBorkenau ( حول تشكل الفكر الميكانيكي)، و أنتال Antal حول الرسم أو أدو رنوAdorno ( حول هايدغر) ، حاولت ربط الأعمال الفكرية بالنظرة إلى العالم أو بالمصالح الاجتماعية لطبقة اجتماعية( 8) .
إذن ، لا الذي يقصده فوكو، و لا الذي يقصده الشكلانيون الروس، و لا أصحاب التوجه الماركسي و الإحصائي هو الحقل، بل إن الحقل شيء آخر مختلف تماما. و لضبطه و إدراك حدوده و شعابه و ألاعيبه و الفاعلين فيه و منطق اشتغالهم و اشتغاله بهم، يلزم تطبيق نمط التفكير العلائقي على الفضاء الاجتماعي للمنتجين( منتجي الأعمال الفكرية أو الثقافية) : فالميكروكوزم( 9) الاجتماعي الذي تنتج في إطاره الأعمال الثقافية( الحقل الأدبي، الحقل الفني، الحقل العلمي...الخ) هو فضاء لعلاقات موضوعية بين مواقع( موقع الفنان المنبوذ Maudit و موقع الآخر المتوّجConsacré) ..، و لا يمكن فهم ما يجري داخله إلا إذا موضعنا كل فاعل أو كل مؤسسة داخل علاقاته/علاقاتها مع كل الفاعلين أو المؤسسات الأخرى، إذ ضمن الأفق الخاص لعلاقات القوة المتميزة هذه، و للصراعات الهادفة إلى المحافظة أو إلى التغيير، تنشأ استراتيجيات المنتجين: شكل الفن الذي يدافعون عنه، و التحالفات التي ينسجون و المدارس التي يؤسسون، كل ذلك من خلال المصالح الخاصة التي تتحدد ضمن تلك العلاقات(10).
ذلك هو الحقل، و تلك هي عوالمه الذرّية( ميكروكوزماته) التي يشتغل كل منها بنفس منطق اشتغال الحقل ككل. فالسيرورة التي تفضي إلى الأعمال الفكرية هي نتاج الصراع بين الفاعلين الذين لهم مصلحة في المحافظة أي في الروتين و الرّوتنةRoutinisation ، أو الذين يسعون إلى قلب الوضع القائم ، و الذي يتخذ في الغالب شكل العودة إلى المنابع و نقاء الأصول، و النقد المارق، كل ذلك في علاقة مع مواقع الفاعلين ضمن الحقل. فأن يفرض في السوق ( سوق الخيرات الرمزية) في لحظة معينة، منتج جديد، و منتوجا جديدا و نسق أذواق جديد، معناه الدفع للانزلاق إلى الماضي بمجموع المنتجين و المنتوجات و أنساق الذوق المرتّبة تبعا لعلاقة درجة الشرعية(11).
2- مفهوم "الحقل": القوة الإجرائية و الفعالية الاستكشافية:
لا يقدم لنا بورديو أفكارا محض نظرية تورطنا في التأمل الصرف، أو تجرنا نحو الحلم ! ، يكره بورديو أن يخالطنا الانفصال عن الوقائع و منطق اشتغال الواقع. و بناء على ذلك، يقدم لنا مفهوما إجرائيا/أداة إجرائية تمكننا من الانتقال المباشر إلى العمل، يكفي أن تتوفر فينا الشروط المطلوبة و أبرزها الروح الجادة المستعدة للآلام المبرحة ، فالحقل جديد والأدوات في غاية الدقة و الخيوط متشابكة و كم تحن مع بورديو بعيدين عن تلك المسالك التبسيطية المألوفة.
ما أن يمسك الباحث و الناقد و مؤرخ الأفكار بخيوط مفهوم الحقل ، حتى يشعر بقوة و كأنه يمسك بضوء كاشف وسط غابة فادحة الحلكة، فتنفضح له استراتيجيات الفاعلين و المؤسسات المنخرطة/المنخرطين في الصراعات الأدبية، أي اتخاذهم لمواقف جد خصوصية كالأسلوبية مثلا، أو غير خصوصية كالمواقف السياسية و الأخلاقية...الخ، هذه الاستراتيجيات التي يتضح أنها متوقفة على الموقع الذي تحتله/يحتلونه داخل بنية الحقل، أي داخل توزيع الرأسمال الرمزي الخاص الممأ سس أوغير الممأسسInstitutionnalisé ou non ( اعتراف داخلي أو شهرة خارجية) ، و الذي – عبر الاستعدادات المتشكلة من هابيتوسهم Habitus (12) ( و المستقلة نسبيا عن الموقع) ، تخضعهم إما لأن يحافظوا على بنية هذا التوزيع أو يعملوا على تغييرها ، أي أن يؤبدوا قواعد اللعبة الجارية أو أن يخلخلوها. إلا أن هذه الاستراتيجيات –
و عبر رهانات الصراع بين السائدين و المطالبين بالاعتراف بهم و القضايا التي حولها يتواجهون – متوقفة أيضا على وضعية الإشكالية المشروعة، أي وضعية مجال الإمكانيات الموروثة من الصراعات السابقة الذي يميل إلى تعريف/تحديد مجال اتخاذ المواقف الممكنة و توجيه البحث عن الحلول و بالتالي تطوير الإنتاج(13) .
كل ذلك يكشفه اعتماد مفهوم "الحقل" أداة إجرائية للقراءة و التحليل و التفكيك، و هو ما لا يتسنى بالأساليب التقليدية و الأدوات الكلاسيكية ضمن المناهج الكلاسيكية التي يستمر اعتمادها في حقل الدراسات الأدبية أو حتى في حقل العلوم الإنسانية. و تتسع دائرة الفعالية التي تتمتع بها الأداة التي يقدمها لنا بورديو حين يكشف التطبيق العملي قصور كل الدراسات و المناهج و الأدوات و التقنيات التي تشتغل في خندق البحث عن الوظائف ضمن الحقل الثقافي العام أو ضمن كل ميكروكوزم على حدة( الشعر، الرواية، المسرح، الفلسفة...) . يقول بورديو : "بلغة أكثر عمقا، لنفترض أننا تمكنا من تحديد الوظائف الاجتماعية للعمل الفكري، أي المجموعات و "المصالح" التي يخدمها أو يعبر عنها، هل نكون قد دفعنا و لو قليلا في اتجاه فهم بنية العمل ؟
القول بأن الدين "أفيون الشعوب" لا يعلمنا شيئا حول بنية الرسالة الدينية. و بناء على ذلك يمكنني القول فيما يخص عرضي أن بنية الرسالة هي شرط إنجازها لوظيفتها، إن كانت هناك وظيفة. و ضد هذا الاختزال بالضبط، طورت(بورديو) نظرية للحقل، لأن الاهتمام المبالغ فيه بالوظائف، يؤدي إلى إغفال مسألة المنطق الداخلي للموضوعات الثقافية، بنيتها باعتبارها لغات، و الأكثر عمقا أنه يؤدي إلى نسيان المجموعات التي تنتج هذه الموضوعات ( رجال دين، قانونيون، مثقفون، كتاب، شعراء، فنانون، رياضيون...الخ) ، و الذين تؤدي لهم وظائف. وهنا يعتبر فيبرWeber و نظريته في الفاعلين الدينيين ملاذا حقيقيا. و لكن إذا كان له الفضل في إعادة إدماج المتخصصين و مصالحهم الخاصة، أي الوظائف التي يقوم بها نشاطهم و منتوجاتهم ( عقائد دينية، مجموعات نصية قانونية...) لصالحهم، فإنه (أي فيبر) لا يلاحظ أن عوالم رجال الدين هي ميكروكوزمات اجتماعية أي حقول لها بنيتها الخاصة و قوانينها الخاصة(14).
إننا بكل وضوح أمام أداة إجرائية في غاية الفعالية الاستكشافية، و القادر على الإمساك بها و تسليط أضوائها الكاشفة بإتقان و حسب التعليمات الصارمة ل"الصانع"،على حقل ثقافي ما لمجتمع ما، لا بد أن ينجلي له و بكل وضوح كون الصراع بين المشهورين من ذوي الألقاب( في حقل ثقافي معين)، و المطالبين بالاعتراف بهم، بين الحائزين على اللقب( كاتب، فيلسوف، عالم...الخ) و خصومهم المعلنين للتحدي كما يقال في مجال الملاكمة، هو الذي يصنع تاريخ الحقل : إن شيخوخة المؤلفين و المدارس و الأعمال الفكرية هي نتيجة الصراع بين ألئك الذين طبعوا فترة تاريخية ما ( بإحداث موقع جديد داخل الحقل) و الذين يصارعون من اجل الاستمرار( حتى يصبحوا كلاسيكيين)، و بين ألئك الذين لا يستطيعون أن يسجلوا اسمهم في التاريخ من غير أن يلقوا إلى الماضي بأولئك الذين لهم مصلحة في تأبيد الوضعية الراهنة و إيقاف التاريخ(15). و لا تفلت من الأضواء الكاشفة لمفهوم الحقل، قنوات الدعم الغير معلنة(في الغالب) التي يتلقاها هذا الطرف أوذاك من جهات أو مؤسسات أو قوى من خارج الحقل لالتقاء مصالحها مع مصالح هذا أو ذاك.
أليس هذا هو منطق الحقل الثقافي منذ انبثاقه؟ألم تقسم قضية دريفوس Dreyfus الشهيرة( التي شكلت منطلق ظاهرة المثقف)، الجسد الثقافي الفرنسي إلى جماعتين متعارضتين لم تخل ساحات الجامعات الفرنسية أحيانا من تشابكهما بالأيدي و العصي؟ و بينما رأت فيها الجماعة الأولى مسّا بشرف الجيش الفرنسي و "محاولة يهودية فاشلة" للنيل من كيان فرنسا الوطني ( موريس باريس Maurice Barres ، أعضاء الأكاديمية الفرنسية...) ، رأت فيها الجماعة الثانية تهديدا للديمقراطية و تكريس للعنصرية و مدا للعسكراتية (اليسار السياسي الفرنسي، ليون بلومLéon Bloom ، جان جريسJean Gores، بعض الأدباء الشباب الملتفين حول جماعة الرمزيين من أمثال أندريه جيدAndré Gide ، مارسيل بروستMarcel Proust) ، ثم دخل أكبر أديب فرنسي آنذاك : إميل زولاEmile Zola ليزن بكل ثقله خصوصا من خلال "إني أتهم" / الرسالة الشهيرة الموجة إلى رئيس الجمهورية بتاريخ 13 يناير1898 (16).
و ما يهمنا أساسا هنا هو كون هذا الاختلاف بين الجماعتين لم يكن محض اختلاف سياسي، بل كان أيضا اختلافا بين جيلين ثقافيين، جيل القدامى الذي مثلته الأكاديمية الفرنسية بميولها الوطنية المحافظة و بمعاداتها لكل ما من شأنه أن يمس ب "الإرث الأدبي للغة الفرنسية"، و جيل المحدثين بميوله الطليعية و بتعاطفه مع كل النزعات "التجديدية". حمل الجيل الأول أحيانا اسم "الورثة" Les héritiers، أي جيل الصالونات الأدبية الرفيعة الذي كان يحتقر احتقارا شديدا الجيل الثاني، جيل الممنوحين)Les boursiers(، أي الجيل الذي تكون في الجامعة الفرنسية و درس فيها بمنح مساعدة علاوة على عوزه المادي و أصوله الريفية(17).
** تساؤلات من وحي سياقنا الثقافي الخاص :
ذلك منطق الحقل و جوهره ، و تلك حقيقته، هو ساحة لحرب حقيقية و لرهانات متناقضة تحسمها الهابيتوسات المختلفة للفاعلين و كذا مواقعهم، و تتدخل قوى خارجية(من خارج الحقل) لتقديم الدعم و المساندة للجهة التي تلتقي معها في المصالح. فالتعارض بين السائدين و المطالبين بالاعتراف بهم يؤسس توترا داخل الحقل بين الذين يجهدون أنفسهم لتجاوز منافسيهم، و الذين يحاولون تجنب أن يكونوا موضوع ذلك التجاوز كما الحال تماما في سباق. و عموما فبالرغم من كون الصراعات الداخلية للحقل تتمتع بالكثير من الاستقلالية من حيث المبدأ، فإنها تبقى دائما متوقفة في أصلها على التبادل الذي يمكن أن تقيمه مع الصراعات الخارجية، سواء تعلق الأمر بالصراعات داخل حقل السلطة أو داخل الحقل الاجتماعي في كليته(18).
و كل قارئ ألم بخيوط مفهوم "الحقل" كما بناه بورديو و هندس مركباته، لا بد و أن تجرفه رغبة عارمة في "تسليطه" على الواقع و الوقائع، خصوصا في مثل سياقنا الثقافي لتسليط الضوء على الزوايا المظلمة لإخفاقاتنا و النقط العمياء المسببة لانتكاساتنا و العلاقات و البنيات المعطلة لانبثاقنا، و خصوصا لوضع اليد على سر امتداد التفاهة إلى العديد من جوانب البعد المزي فينا بعدما كان منا سادة الشعر و الفلسفة و الرياضيات و الفلك...، و انطفأ عنا نور كل هؤلاء بعدما تم تعطيل عقلنا أو على الأحسن ميتا-معرفنا.
و قبل الانتقال إلى العمل الإجرائي الهائل الذي تتيحه الأداة (مفهوم الحقل)، لا نشك في كون القارئ في سياقنا سيجد نفسه وجها لوجه أمام سيل من الأسئلة جد مستفز من قبيل :
أ- كم من شاعر و روائي و مشتغل بالفلسفة و بالتاريخ و بالسياسة (العلم) و...، في سياقنا كان يلزم أن يخرس منذ زمان لأنه لم يعد في جعبته ما يقدمه، إلا أنه يستمر في السيادة. و الحال أنه بالنسبة لمن يأخذ في الاعتبار منطق الثورة الدائمة التي باتت قانونا لاشتغال الحقل، فلا يمكن التردد في القول أن خمسة و عشرين عاما هي مدة للبقاء جد طويلة لجيل أدبي(19).
ب- في إطار تدخل السلطة القائمة ضمن الصراع داخل الحقل الثقافي بين المتوجين / السائدين و المنبوذين / المجددين و المطالبين بالاعتراف بهم ( طبعا لصالح السائدين لالتقاء المصالح بين الطرفين)، ألا يسهل تصور كون حجم تدخل السلطان)Le pouvoir( التقليدي المعادي للعقل الجاثم على صدورنا ، فظيع ، مخرب و بشع إلى أبعد الحدود، و هو ما يفسر التشوهات التي مست ميكروكوزمات عديدة من حقلنا الثقافي و تضخم أعداد وجوه بلاستيكية لشعراء و روائيين و محللين سياسيين و حتى فلاسفة و سوسيولوجيين تحتل الساحة ليسهل الاغتيال الرمزي للحقيقيين.
ت- بالنسبة لمجتمعاتنا نحن خارج الغرب الديمقراطي المتقدم بالخصوص، هل يقتصر الدعم الذي يتلقاه المكرسون و الذين ينعتون بالمثقفين، على السلطان المركزي التقليدي أم يتعداه إلى المؤسسات الموازية لهذا السلطان، و نقصد بالخصوص ما ينعت ب "الأحزاب" أساسا؟
أليس مشهورا عندنا نحن بالمغرب مثلا أن أسماء تحتل مواقع أمامية في الحقل الثقافي إن هي إلا "صناعة حزبية" باهتة و أن البون بينها و بين ما يدعى لها من شعر و رواية و سوسيولوجيا و علم سياسة و...و...، جد شاسع، و الأخطر في ذلك أنها بوجوهها اللاتستحيي يصبح كل واحد منها إمبراطورا على ميكروكوزم.
ث- في ارتباط بما سبق، ألا يجرنا مفهوم الحقل إلى التساؤل المؤلم عن كم من الشعراء و الروائيين و المؤرخين و المفكرين الفعليين و الغير الزائفين في سياقنا الذين سيغادرون هذا العالم دون أن تتاح لهم الفرصة لتلقيح مخيالنا بتقديم ما لديهم، نتيجة التواطؤ الفظيع(الغير معلن) بين السلطة التقليدية المتخلفة المعتمدة على المكر و الدسيسة، و جيل المتوجين المصرين على الاستمرار في احتكار الزمان و المكان (و لو على حساب المقدس).
لقد كشف ميشيل فوكو أن لكل مجتمع نظاما معينا للحقيقة و سياسة للمعرفة و أنواعا من الخطابات يقبلها و يسمح بتداولها و عملها على أساس أنها خطاب الحقيقة، و آليات و منابر تسمح بتعيين ما للحقيقة و ما ليس لها، و طرق معينة للتوصل إلى الحقيقة، و موقع خاص لأولئك الذين يوكل إليهم إصدار قول ما يعمل كحقيقة. و بناء على ذلك، فمهمة المثقف الجدير بهذا الاسم هي العمل في خندق إنشاء سياسة جديدة للحقيقة، أي العمل من أجل تغيير النظام السياسي و المؤسساتي لإنتاجها و تعميمها و الدعاية لها. يقول بورديو : يكفي أن نطرح السؤال الممنوع لنتبين أن الفنان الذي خلق العمل هو نفسه "مخلوق" داخل حقل الإنتاج من طرف الذين ساهموا في "اكتشافه" و تتويجه كفنان "معروف"، و معترف به (نقاد، مقدمون، تجار...الخ). (20). يحدث هذا بالمجتمعات الحديثة، أما بمنجمعاتنا بعاهاتها ، فالسلطة التقليدية المتخلفة المهووسة بتأبيد شرطها و لو على حساب انقراض شعوبها، تبقى هي صاحبة الكلمة الأولى لأنها صاحبة أكبر مصلحة في استمرار الأسئلة الزائفة و التي مستها الشيخوخة، و التي تكرر نفسها ، و التي ضاع أصحابها بفعل التضخم الفادح للأنا ، و التي تكره "الانفصال" بلغة الفلسفة. إلا أن كل ذلك لا يمنع من انتشار بعض الجديرين به رغم ضراوة الاغتيال الرمزي، و لكن تحت وطأة آلام مبرحة وقدرة على التحمل هائلة، أو بضمان الشهرة بالجغرافيا التي تحتفي بالفكر و المفكرين قبل العودة (بالشهرة) إلى أرض السواد، أو بالحيلة... . و لا عيب أبدا في ذلك ما دام شعراء و قصاصو و روائيو و فلاسفة الأنابيب يتكاثرون كالفطر، وفعلهم التسطيحي الخبيث يهدد أجيالنا بالضياع.
__________________________
هوامش:
1-Pierre Bourdieu : Raisons pratiques- sur la théorie de l’action- édition : Seuil –
1994 – p : 96
2-Pierre Bourdieu : Les règles de l’art – Genèse et structure du champ littéraire
–édition du Seuil- 1992.
3-Pierre Bourdieu : Science de la science et réflexivité : édition : Raison d’agir –
Paris- 2001.
4-Pierre Bourdieu : Raisons pratiques- op.cit.- p : 65.
5-Pierre Bourdieu : Raisons pratiques –op.cit.-p : 65.
6-Pierre Bourdieu : Raisons Pratiques –op.cit –p : 63.
7-Pierre Bourdieu : Raisons Pratiques – op.cit – p : 66.
8- Pierre Bourdieu : Raisons pratiques – op.cit – p : 67.
-9يستعمل بورديو مفهوم "الميكروكوزم" بمعنى الحقل الذري أو الحقل الخاص لإنتاج صنف أدبي أو معرفي خاص (شعر، رواية، فلسفة...) له بنيته الخاصة و قوانينه الخاصة.
10-Pierre Bourdieu : Raisons pratiques – op.cit. p. : 68
11- Pierre Bourdieu : Les règles de l’art – op. Cit. –p. :264.
12- يقصد بورديو بمفهوم "الهابيتوس" مجموع الاستعدادات التي تطبع في الأفراد ضمن موقع معين و شروط معينة، و التي تجعلهم يتصرفون وفقها (الاستعدادات) لا وفق ما يريدون/يختارون أو وفق شرطهم أو وفق ما يقتضيه العقل... .
13- Pierre Bourdieu : Raisons pratiques – op.cit – p. :71.
14- Pierre Bourdieu : Raisons pratique – op. Cit – p. : 68.
15- واضح جدا في حالة المجتمعات التقليدية أن هذا الصراع يحسم في الغالب لصالح المكرّسين نتيجة الدعم الذي يتمتعون به من طرف السلطة التقليدية و المؤسسات الموازية لها، و أنه لا تتاح الفرصة لانتصار المنبوذين إلا في حالات ناذرة ، بالحيلة و ذكاء أحيانا ، و بمعاناة لا حدود لها أحيانا أخرى.
16- محمد الشيخ: المثقف و السلطة – دراسة في الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر – دار الطليعة – بيروت – الطبعة الأولى – 1991 – ص: 18.
17- محمد الشيخ: نفس المرجع – ص: 18.
18- Pierre Bourdieu : Les règles de l’art – op. Cit – pp : 212-213.
19- Florian – Parmentier : La littérature et l’Europe – Histoire de la littérature Française de 1885 à nos jours – Paris – Eugène Figuière – 1994 – pp : 292-293.
20- Pierre Bourdieu : Les règles de l’art – op. Cit- p : 280.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
مفهوم "الحقل" عند بيير بورديو: القوة الإجرائية و الفعالية الاستكشافية.
يخلد الفلاسفة بمفاهيمهم، و العلماء أيضا، بل إن العالم يتحول في آخر المطاف إلى إنسان مقترن بمجموعة من المفاهيم صيغت في شكل قوانين. و يخلد المفهوم الفيلسوف باعتبار المفهوم في جوهره تورطا و ارتطاما بالعالم و قضاياه، و بالضبط بقضايا الإنسان في علاقته بالإنسان. و التورط و الارتطام قد يكونان بالمعنى الإيجابي و قد يكونان بالمعنى السلبي، و السلبي و الإيجابي يدركان طبعا انطلاقا من شرط من يرى و يدرك. و حين يتمكن الفيلسوف من بناء مفهوم ما بهذا المعنى) وهي عملية في غاية الصعوبة و إلا لكان كثير من الناس فلاسفة (، يولد المفهوم و ينفصل عن صاحبه، و يصبح ملكا لكل قادر على التورط أو إعادة التورط به. و هنا يكمن سر تخليده للفيلسوف الذي أبدعه. أما سر تخليد المفهوم للعالم، فالواضح أنه أشسع من سر تخليده للفيلسوف خصوصا حين يتعلق الأمر بالمفاهيم المرتبطة بقضايا الإنسان، إذ إلى جانب كون المفهوم هنا تورطا و ارتطاما بالعالم و قضاياه يستثمره آخرون، فإن المفهوم في العلم يعتبر أداة للكشف و الاستقراء و النبش و السبر و التفكيك )تفكيك الوقائع طبعا( ...، يستمر اعتمادها) الأداة( بالتناسب مع حجم قوتها و فعاليتها، وما دام العلم لم يتمكن بعد من بناء مفهوم آخر أكثر قوة و فعالية.
و القارئ الذي تابع و تفحص الأعمال العلمية الكبرى لعالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو Pierre Bourdieu ، لابد أن يلاحظ كونها تمحورت حول مفاهيم كبرى اخترقت قوتها الثقافات و التخصصات و الحدود و اللغات، و باتت ملكا للكثيرين خلال حياته و اليوم بعد رحيله )أليست ضامنة لخلوده؟(، و نخص بالذكر مفاهيم "إعادة الإنتاج"La reproduction، و "العنف الرمزي"La violence symbolique، و "الهابيتوس" Habitus،) و مما له الكثير من المعنى أن لا نعثر له على مقابل متماسك في العديد من اللغات و يتم استعماله على نطاق واسع بلغته الأصلية (، و "الرأسمال الرمزي"Capital symbolique ، و "الخيرات الرمزية"Biens symboliques ، و "سوق الخيرات الرمزيةMarché des biens symboliques ، و "الطبع"Inculcation ، و"النبلاء الجدد"La nouvelle noblesse، و"الميكروكوزم"Le microcosme و "الحقل"Le champ...
و ما يهمني أساسا في هذه الدراسة هو هذا المفهوم الأخير، أي مفهوم "الحقل".و الحال أنه في غاية الصعوبة الإحاطة بكل المفاهيم التي أبدعها و تورط بها بورديو لأن لكل منها سياق تورطه و منطقه و رهاناته و سيرورة انبنائه .
1- مفهوم "الحقل" عند بورديو:
تلزم الإشارة أولا إلى كون معنى "إبداع" المفاهيم في العلم ( و في الفلسفة أيضا) لا يحيل بالضرورة إلى معنى الخلق أو النحت لأول مرة، أي بالمعنى الذي يدفع إلى الاعتقاد أن الكلمة/المفهوم لم تكن موجودة أصلا و لا يبدأ وجودها إلا مع وجود الفيلسوف أو العالم !!، لا ليس الأمر كذلك، لأن الكثير من المفاهيم العلمية (حتى في مجال العلوم الدقيقة) تكون في الغالب مألوفة في اللغة العادية (و لا أقول العامية)، و لكن ككلمات لا أكثر( أي ليس كمفاهيم) . فمفهوم "الجاذبية " قبل أن يصبح مفهوما علميا تفسر به ظواهر الكون كان كلمة عادية تضاف إلى حديقة أو لوحة أو امرأة للتعبير عن جمالها الفادح. و نفس الحال بالنسبة لمفهوم "الحقل" عند بورديو الذي انتزعه من الاستعمال العادي الذي يفيد قطعة أرض قد تمتد و قد تقصر، أو في الاستعمالات الحديثة: مجالا لتربية الدواجن أو الأسماك أو غيرها...، ليبنيه مفهوما علميا للتورط و الكشف و الخلخلة. يحيل مفهوم الحقل عند بورديو إلى عالم اجتماعي كامل "Tout un monde social "، أي بكل المواصفات و التقاطيع التي يشير إليها العالم الاجتماعي: يتعلق الأمر بسلطة و رأسمال و علاقات قوة و صراعات من أجل المحافظة أو من أجل تغيير علاقات القوة القائمة، و باستراتيجيات للمحافظة أو للخلخلة...الخ، كما في باقي المجالات الاجتماعية. و من جهة أخرى، و في نفس الوقت عالم خاص له قوانين اشتغاله الخاصة( 1). هذا هو معنى الحقل الثقافي عند بورديو، و هو المعنى الذي ما انفك يطوره على امتداد مشواره العلمي الطويل الممتد من نهاية الستينات و بالضبط من ثورة الطلاب الشهيرة إلى مشارف القرن الواحد و العشرين. أثار بورديو مفهوم "الحقل" في مقالات عديدة أولا، ثم قدم تركيبا في كتابه "الرأسمال الرمزي". و عاد للمفهوم بقوة في كتاب ضخم هو" قواعد الفن"(2) ، ثم ارتقى في عملية التركيب و الصياغة في آخر درس له بكوليج دو فرانس( أي بعد مدة طويلة من بداية ورش بناء المفهوم) ، و هو الدرس الذي نشر تحت عنوان مشهور عند السوسيولوجيين و النقاد الأدبيين و الأنتروبولوجيين و غيرهم(3) . ثم عاد في نهاية مشواره ليقدم لنا المنتوج و قد اكتمل بنيانه، أي المفهوم و قد انقطعت صلته بالمعنى الاستعمالي العادي ليغدو أداة للتورط و الحفر و النبش و الفهم و التفسير فعالة و في أعلى درجات القوة الإجرائية، أي قابل لأن يستخدمه الآخرون للتحليل و الفهم و فك ألغاز و طلاسم الواقع الاجتماعي( و المقصود هنا هو طلاسم الحقل الثقافي).
و لكي يقربنا بورديو أكثر من مفهوم "الحقل"، ينتقد كلا من ميشيل فوكو و الشكلانيين الروس في فهمهم لمنطق اشتغال "الثقافي": ينتقد فوكو أولا، فيكشف كون هذا الأخير بقي وفيا للتقليد الديسوسوري( نسبة إلى دي سوسير) ، حين ينتهي إلى التأكيد على الاستقلالية المطلقة ل: "حقل الإمكانيات الإستراتيجية" الذي يسميه "الإبستيمية"( Epistémè ، و يستدعي بورديو فيدغتشطاينWittgenstein في تذكيره بكون الحقائق الرياضية ليست جواهر خالدة تخرج مسلحة بالكامل من الدماغ البشري ، و إنما هي المنتوجات التاريخية لنوع من العمل التاريخي المنجز تبعا للقواعد و الضوابط الخاصة بهذا العالم الاجتماعي الخاص الذي هو الحقل العلمي(4) .
ثم يؤكد بورديو أن نفس النقد يبقى صالحا ضد الشكلانيين الروس، الذين لا يـأخذون في الحسبان سوى نسق الأعمال [الفكرية] ، أي شبكة العلاقات بين النصوص أو العلاقات البين-نصية intertextualité،و مثلهم في ذلك مثل فوكو، يجدون أنفسهم مضطرين للعثور داخل نسق النصوص ذاته على مبدأ ديناميته(5). أليس ذلك ما يقوله تينيانوفTynianov عن النسق الأدبي، ثم أليس ذلك جوهر أطروحة فوكو بالنسبة للعلوم؟
يحلل التأويل البنيوي الأعمال الثقافية ( اللغة، الأساطير...، ثم الأعمال الفنية) كبنيات مبنينة )Structures structurées( دون ذوات مبنينة )des sujets structurants( و التي هي كما الحال بالنسبة للغة الديسوسورية إنجازات تاريخية خاصة، و يلزم-إذن- تفكيك رموزها على أساس أنها كذلك، و لكن دون أدنى رجوع للشروط الاقتصادية أو الاجتماعية لإنتاج العمل الثقافي أو لمنتجيه(6).
و ضمن تحديده ل مفهوم الحقل، يتنقل بورديو إلى تناول التحليل الخارجي( المنتوجات الرمزية)، و الذي يفكر في العلاقة بين العالم الاجتماعي Le monde social و الأعمال الثقافية ضمن منطق الانعكاس، فيربط –ميكانيكيا- الأعمال الفكرية بالخصائص الاجتماعية للمؤلفين( بأصولهم الاجتماعية)، أو للمجموعات الحقيقية أو المفترضة التي توجه لهم تلك الأعمال، و الذين يفترض أن تجيب على انتظاراتهم(7).
ثم يتناول التحليل الإحصائي الذي يبحث عن بناء الخصائص الإحصائية لجمهور الكتاب خلال فترات مختلفة أو عند فئات مختلفة منهم( مدارس، أجناس...الخ)
خلال فترة معينة، و يبين بورديو أن هذا النمط من التحليل ليس أكثر صلاحية، فهو ينطبق في الغالب على جمهور[ كتاب ] مبني مسبقا بمبادئ للترتيب هي الأخرى مبنية سلفا. ولإعطائه الحد الأدنى من الصرامة و الدقة، يلزم أولا –كما قام بذلك فرانسيس هاسكل Francis Haskell بالنسبة لفن الرسم – دراسة سيرورة تكوين لوائح المؤلفين الذين يشتغل عليهم الإحصائي، أي عملية سن المبادئ و القواعد التي تمكن من التمييز بين الفئات التي تتحكم في بناء التراتب الذي يؤدي إلى تحديد جمهور الكتاب المعترف بهم في لحظة تاريخية معينة. و من جهة أخرى، يلزم دراسة نشوء و تشكل أنساق الترتيب و تحديد العصور و "الأجيال" و "المدارس" و "الاتجاهات" و الأجناس...الخ التي تستعمل في التصنيفات الإحصائية و التي هي واقع أدوات و رهانات الصراع.
ليست المسألة إذن بالبساطة التي يعتقد الكثيرون، فقراءة حال حقل ثقافي معين من أصعب المهام على الإطلاق، و النقد الأدبي أو النقد عموما ليس بالمعنى المبتذل و المبسط الشائع، بل هو مهمة شاقة إلى أبعد الحدود، إذ في غياب تلك الجينيالوجيا التي يضع بورديو إجراءاتها و خطواتها الضرورية، نعرض أنفسنا لخطر الحسم في المشكلة على المستوى البحثي بينما هي لا زالت قائمة على مستوى الواقع : مثلا حدود جمهور الكتّاب أي حدود الكتاب المعترف بهم من طرف الأكثر شهرة منهم، أولئك الذين لايتردد كبار الناشرين في نشر "أعمالهم"مهما كان مستوى جودتها ، و تفرد لهم الصحف الكبرى مساحة خاصة متميزة، و يتسابق الصغار المتزلفون لنشر قراءات لأعمالهم يرسمونهم فيها – تزييفا ونفخا- آلهة أو أوثانا، ليستمدوا فتات رمزية منهم. مما يعطي لهؤلاء الأكثر شهرة الحق في الادعاء بأنهم كتاب. ينطبق ذلك على الروائيين كما ينطبق على الشعراء و المؤرخين و المحللين السياسيين و الجغرافيين و السوسيولوجيين، و كل المشتغلين بكل الحقول المعرفية.
و ينتهي بورديو إلى أن الدراسات الأكثر نموذجية لنمط التحليل الخارجي و التي يغيب عنها معنى الحقل و منطق اشتغاله، هي الدراسات ذات النفحة الماركسية التي من خلال كتاب مختلفين ك : لوكا تش Lukacs أو غولدمانGoldmann و بوركونوBorkenau ( حول تشكل الفكر الميكانيكي)، و أنتال Antal حول الرسم أو أدو رنوAdorno ( حول هايدغر) ، حاولت ربط الأعمال الفكرية بالنظرة إلى العالم أو بالمصالح الاجتماعية لطبقة اجتماعية( 8) .
إذن ، لا الذي يقصده فوكو، و لا الذي يقصده الشكلانيون الروس، و لا أصحاب التوجه الماركسي و الإحصائي هو الحقل، بل إن الحقل شيء آخر مختلف تماما. و لضبطه و إدراك حدوده و شعابه و ألاعيبه و الفاعلين فيه و منطق اشتغالهم و اشتغاله بهم، يلزم تطبيق نمط التفكير العلائقي على الفضاء الاجتماعي للمنتجين( منتجي الأعمال الفكرية أو الثقافية) : فالميكروكوزم( 9) الاجتماعي الذي تنتج في إطاره الأعمال الثقافية( الحقل الأدبي، الحقل الفني، الحقل العلمي...الخ) هو فضاء لعلاقات موضوعية بين مواقع( موقع الفنان المنبوذ Maudit و موقع الآخر المتوّجConsacré) ..، و لا يمكن فهم ما يجري داخله إلا إذا موضعنا كل فاعل أو كل مؤسسة داخل علاقاته/علاقاتها مع كل الفاعلين أو المؤسسات الأخرى، إذ ضمن الأفق الخاص لعلاقات القوة المتميزة هذه، و للصراعات الهادفة إلى المحافظة أو إلى التغيير، تنشأ استراتيجيات المنتجين: شكل الفن الذي يدافعون عنه، و التحالفات التي ينسجون و المدارس التي يؤسسون، كل ذلك من خلال المصالح الخاصة التي تتحدد ضمن تلك العلاقات(10).
ذلك هو الحقل، و تلك هي عوالمه الذرّية( ميكروكوزماته) التي يشتغل كل منها بنفس منطق اشتغال الحقل ككل. فالسيرورة التي تفضي إلى الأعمال الفكرية هي نتاج الصراع بين الفاعلين الذين لهم مصلحة في المحافظة أي في الروتين و الرّوتنةRoutinisation ، أو الذين يسعون إلى قلب الوضع القائم ، و الذي يتخذ في الغالب شكل العودة إلى المنابع و نقاء الأصول، و النقد المارق، كل ذلك في علاقة مع مواقع الفاعلين ضمن الحقل. فأن يفرض في السوق ( سوق الخيرات الرمزية) في لحظة معينة، منتج جديد، و منتوجا جديدا و نسق أذواق جديد، معناه الدفع للانزلاق إلى الماضي بمجموع المنتجين و المنتوجات و أنساق الذوق المرتّبة تبعا لعلاقة درجة الشرعية(11).
2- مفهوم "الحقل": القوة الإجرائية و الفعالية الاستكشافية:
لا يقدم لنا بورديو أفكارا محض نظرية تورطنا في التأمل الصرف، أو تجرنا نحو الحلم ! ، يكره بورديو أن يخالطنا الانفصال عن الوقائع و منطق اشتغال الواقع. و بناء على ذلك، يقدم لنا مفهوما إجرائيا/أداة إجرائية تمكننا من الانتقال المباشر إلى العمل، يكفي أن تتوفر فينا الشروط المطلوبة و أبرزها الروح الجادة المستعدة للآلام المبرحة ، فالحقل جديد والأدوات في غاية الدقة و الخيوط متشابكة و كم تحن مع بورديو بعيدين عن تلك المسالك التبسيطية المألوفة.
ما أن يمسك الباحث و الناقد و مؤرخ الأفكار بخيوط مفهوم الحقل ، حتى يشعر بقوة و كأنه يمسك بضوء كاشف وسط غابة فادحة الحلكة، فتنفضح له استراتيجيات الفاعلين و المؤسسات المنخرطة/المنخرطين في الصراعات الأدبية، أي اتخاذهم لمواقف جد خصوصية كالأسلوبية مثلا، أو غير خصوصية كالمواقف السياسية و الأخلاقية...الخ، هذه الاستراتيجيات التي يتضح أنها متوقفة على الموقع الذي تحتله/يحتلونه داخل بنية الحقل، أي داخل توزيع الرأسمال الرمزي الخاص الممأ سس أوغير الممأسسInstitutionnalisé ou non ( اعتراف داخلي أو شهرة خارجية) ، و الذي – عبر الاستعدادات المتشكلة من هابيتوسهم Habitus (12) ( و المستقلة نسبيا عن الموقع) ، تخضعهم إما لأن يحافظوا على بنية هذا التوزيع أو يعملوا على تغييرها ، أي أن يؤبدوا قواعد اللعبة الجارية أو أن يخلخلوها. إلا أن هذه الاستراتيجيات –
و عبر رهانات الصراع بين السائدين و المطالبين بالاعتراف بهم و القضايا التي حولها يتواجهون – متوقفة أيضا على وضعية الإشكالية المشروعة، أي وضعية مجال الإمكانيات الموروثة من الصراعات السابقة الذي يميل إلى تعريف/تحديد مجال اتخاذ المواقف الممكنة و توجيه البحث عن الحلول و بالتالي تطوير الإنتاج(13) .
كل ذلك يكشفه اعتماد مفهوم "الحقل" أداة إجرائية للقراءة و التحليل و التفكيك، و هو ما لا يتسنى بالأساليب التقليدية و الأدوات الكلاسيكية ضمن المناهج الكلاسيكية التي يستمر اعتمادها في حقل الدراسات الأدبية أو حتى في حقل العلوم الإنسانية. و تتسع دائرة الفعالية التي تتمتع بها الأداة التي يقدمها لنا بورديو حين يكشف التطبيق العملي قصور كل الدراسات و المناهج و الأدوات و التقنيات التي تشتغل في خندق البحث عن الوظائف ضمن الحقل الثقافي العام أو ضمن كل ميكروكوزم على حدة( الشعر، الرواية، المسرح، الفلسفة...) . يقول بورديو : "بلغة أكثر عمقا، لنفترض أننا تمكنا من تحديد الوظائف الاجتماعية للعمل الفكري، أي المجموعات و "المصالح" التي يخدمها أو يعبر عنها، هل نكون قد دفعنا و لو قليلا في اتجاه فهم بنية العمل ؟
القول بأن الدين "أفيون الشعوب" لا يعلمنا شيئا حول بنية الرسالة الدينية. و بناء على ذلك يمكنني القول فيما يخص عرضي أن بنية الرسالة هي شرط إنجازها لوظيفتها، إن كانت هناك وظيفة. و ضد هذا الاختزال بالضبط، طورت(بورديو) نظرية للحقل، لأن الاهتمام المبالغ فيه بالوظائف، يؤدي إلى إغفال مسألة المنطق الداخلي للموضوعات الثقافية، بنيتها باعتبارها لغات، و الأكثر عمقا أنه يؤدي إلى نسيان المجموعات التي تنتج هذه الموضوعات ( رجال دين، قانونيون، مثقفون، كتاب، شعراء، فنانون، رياضيون...الخ) ، و الذين تؤدي لهم وظائف. وهنا يعتبر فيبرWeber و نظريته في الفاعلين الدينيين ملاذا حقيقيا. و لكن إذا كان له الفضل في إعادة إدماج المتخصصين و مصالحهم الخاصة، أي الوظائف التي يقوم بها نشاطهم و منتوجاتهم ( عقائد دينية، مجموعات نصية قانونية...) لصالحهم، فإنه (أي فيبر) لا يلاحظ أن عوالم رجال الدين هي ميكروكوزمات اجتماعية أي حقول لها بنيتها الخاصة و قوانينها الخاصة(14).
إننا بكل وضوح أمام أداة إجرائية في غاية الفعالية الاستكشافية، و القادر على الإمساك بها و تسليط أضوائها الكاشفة بإتقان و حسب التعليمات الصارمة ل"الصانع"،على حقل ثقافي ما لمجتمع ما، لا بد أن ينجلي له و بكل وضوح كون الصراع بين المشهورين من ذوي الألقاب( في حقل ثقافي معين)، و المطالبين بالاعتراف بهم، بين الحائزين على اللقب( كاتب، فيلسوف، عالم...الخ) و خصومهم المعلنين للتحدي كما يقال في مجال الملاكمة، هو الذي يصنع تاريخ الحقل : إن شيخوخة المؤلفين و المدارس و الأعمال الفكرية هي نتيجة الصراع بين ألئك الذين طبعوا فترة تاريخية ما ( بإحداث موقع جديد داخل الحقل) و الذين يصارعون من اجل الاستمرار( حتى يصبحوا كلاسيكيين)، و بين ألئك الذين لا يستطيعون أن يسجلوا اسمهم في التاريخ من غير أن يلقوا إلى الماضي بأولئك الذين لهم مصلحة في تأبيد الوضعية الراهنة و إيقاف التاريخ(15). و لا تفلت من الأضواء الكاشفة لمفهوم الحقل، قنوات الدعم الغير معلنة(في الغالب) التي يتلقاها هذا الطرف أوذاك من جهات أو مؤسسات أو قوى من خارج الحقل لالتقاء مصالحها مع مصالح هذا أو ذاك.
أليس هذا هو منطق الحقل الثقافي منذ انبثاقه؟ألم تقسم قضية دريفوس Dreyfus الشهيرة( التي شكلت منطلق ظاهرة المثقف)، الجسد الثقافي الفرنسي إلى جماعتين متعارضتين لم تخل ساحات الجامعات الفرنسية أحيانا من تشابكهما بالأيدي و العصي؟ و بينما رأت فيها الجماعة الأولى مسّا بشرف الجيش الفرنسي و "محاولة يهودية فاشلة" للنيل من كيان فرنسا الوطني ( موريس باريس Maurice Barres ، أعضاء الأكاديمية الفرنسية...) ، رأت فيها الجماعة الثانية تهديدا للديمقراطية و تكريس للعنصرية و مدا للعسكراتية (اليسار السياسي الفرنسي، ليون بلومLéon Bloom ، جان جريسJean Gores، بعض الأدباء الشباب الملتفين حول جماعة الرمزيين من أمثال أندريه جيدAndré Gide ، مارسيل بروستMarcel Proust) ، ثم دخل أكبر أديب فرنسي آنذاك : إميل زولاEmile Zola ليزن بكل ثقله خصوصا من خلال "إني أتهم" / الرسالة الشهيرة الموجة إلى رئيس الجمهورية بتاريخ 13 يناير1898 (16).
و ما يهمنا أساسا هنا هو كون هذا الاختلاف بين الجماعتين لم يكن محض اختلاف سياسي، بل كان أيضا اختلافا بين جيلين ثقافيين، جيل القدامى الذي مثلته الأكاديمية الفرنسية بميولها الوطنية المحافظة و بمعاداتها لكل ما من شأنه أن يمس ب "الإرث الأدبي للغة الفرنسية"، و جيل المحدثين بميوله الطليعية و بتعاطفه مع كل النزعات "التجديدية". حمل الجيل الأول أحيانا اسم "الورثة" Les héritiers، أي جيل الصالونات الأدبية الرفيعة الذي كان يحتقر احتقارا شديدا الجيل الثاني، جيل الممنوحين)Les boursiers(، أي الجيل الذي تكون في الجامعة الفرنسية و درس فيها بمنح مساعدة علاوة على عوزه المادي و أصوله الريفية(17).
** تساؤلات من وحي سياقنا الثقافي الخاص :
ذلك منطق الحقل و جوهره ، و تلك حقيقته، هو ساحة لحرب حقيقية و لرهانات متناقضة تحسمها الهابيتوسات المختلفة للفاعلين و كذا مواقعهم، و تتدخل قوى خارجية(من خارج الحقل) لتقديم الدعم و المساندة للجهة التي تلتقي معها في المصالح. فالتعارض بين السائدين و المطالبين بالاعتراف بهم يؤسس توترا داخل الحقل بين الذين يجهدون أنفسهم لتجاوز منافسيهم، و الذين يحاولون تجنب أن يكونوا موضوع ذلك التجاوز كما الحال تماما في سباق. و عموما فبالرغم من كون الصراعات الداخلية للحقل تتمتع بالكثير من الاستقلالية من حيث المبدأ، فإنها تبقى دائما متوقفة في أصلها على التبادل الذي يمكن أن تقيمه مع الصراعات الخارجية، سواء تعلق الأمر بالصراعات داخل حقل السلطة أو داخل الحقل الاجتماعي في كليته(18).
و كل قارئ ألم بخيوط مفهوم "الحقل" كما بناه بورديو و هندس مركباته، لا بد و أن تجرفه رغبة عارمة في "تسليطه" على الواقع و الوقائع، خصوصا في مثل سياقنا الثقافي لتسليط الضوء على الزوايا المظلمة لإخفاقاتنا و النقط العمياء المسببة لانتكاساتنا و العلاقات و البنيات المعطلة لانبثاقنا، و خصوصا لوضع اليد على سر امتداد التفاهة إلى العديد من جوانب البعد المزي فينا بعدما كان منا سادة الشعر و الفلسفة و الرياضيات و الفلك...، و انطفأ عنا نور كل هؤلاء بعدما تم تعطيل عقلنا أو على الأحسن ميتا-معرفنا.
و قبل الانتقال إلى العمل الإجرائي الهائل الذي تتيحه الأداة (مفهوم الحقل)، لا نشك في كون القارئ في سياقنا سيجد نفسه وجها لوجه أمام سيل من الأسئلة جد مستفز من قبيل :
أ- كم من شاعر و روائي و مشتغل بالفلسفة و بالتاريخ و بالسياسة (العلم) و...، في سياقنا كان يلزم أن يخرس منذ زمان لأنه لم يعد في جعبته ما يقدمه، إلا أنه يستمر في السيادة. و الحال أنه بالنسبة لمن يأخذ في الاعتبار منطق الثورة الدائمة التي باتت قانونا لاشتغال الحقل، فلا يمكن التردد في القول أن خمسة و عشرين عاما هي مدة للبقاء جد طويلة لجيل أدبي(19).
ب- في إطار تدخل السلطة القائمة ضمن الصراع داخل الحقل الثقافي بين المتوجين / السائدين و المنبوذين / المجددين و المطالبين بالاعتراف بهم ( طبعا لصالح السائدين لالتقاء المصالح بين الطرفين)، ألا يسهل تصور كون حجم تدخل السلطان)Le pouvoir( التقليدي المعادي للعقل الجاثم على صدورنا ، فظيع ، مخرب و بشع إلى أبعد الحدود، و هو ما يفسر التشوهات التي مست ميكروكوزمات عديدة من حقلنا الثقافي و تضخم أعداد وجوه بلاستيكية لشعراء و روائيين و محللين سياسيين و حتى فلاسفة و سوسيولوجيين تحتل الساحة ليسهل الاغتيال الرمزي للحقيقيين.
ت- بالنسبة لمجتمعاتنا نحن خارج الغرب الديمقراطي المتقدم بالخصوص، هل يقتصر الدعم الذي يتلقاه المكرسون و الذين ينعتون بالمثقفين، على السلطان المركزي التقليدي أم يتعداه إلى المؤسسات الموازية لهذا السلطان، و نقصد بالخصوص ما ينعت ب "الأحزاب" أساسا؟
أليس مشهورا عندنا نحن بالمغرب مثلا أن أسماء تحتل مواقع أمامية في الحقل الثقافي إن هي إلا "صناعة حزبية" باهتة و أن البون بينها و بين ما يدعى لها من شعر و رواية و سوسيولوجيا و علم سياسة و...و...، جد شاسع، و الأخطر في ذلك أنها بوجوهها اللاتستحيي يصبح كل واحد منها إمبراطورا على ميكروكوزم.
ث- في ارتباط بما سبق، ألا يجرنا مفهوم الحقل إلى التساؤل المؤلم عن كم من الشعراء و الروائيين و المؤرخين و المفكرين الفعليين و الغير الزائفين في سياقنا الذين سيغادرون هذا العالم دون أن تتاح لهم الفرصة لتلقيح مخيالنا بتقديم ما لديهم، نتيجة التواطؤ الفظيع(الغير معلن) بين السلطة التقليدية المتخلفة المعتمدة على المكر و الدسيسة، و جيل المتوجين المصرين على الاستمرار في احتكار الزمان و المكان (و لو على حساب المقدس).
لقد كشف ميشيل فوكو أن لكل مجتمع نظاما معينا للحقيقة و سياسة للمعرفة و أنواعا من الخطابات يقبلها و يسمح بتداولها و عملها على أساس أنها خطاب الحقيقة، و آليات و منابر تسمح بتعيين ما للحقيقة و ما ليس لها، و طرق معينة للتوصل إلى الحقيقة، و موقع خاص لأولئك الذين يوكل إليهم إصدار قول ما يعمل كحقيقة. و بناء على ذلك، فمهمة المثقف الجدير بهذا الاسم هي العمل في خندق إنشاء سياسة جديدة للحقيقة، أي العمل من أجل تغيير النظام السياسي و المؤسساتي لإنتاجها و تعميمها و الدعاية لها. يقول بورديو : يكفي أن نطرح السؤال الممنوع لنتبين أن الفنان الذي خلق العمل هو نفسه "مخلوق" داخل حقل الإنتاج من طرف الذين ساهموا في "اكتشافه" و تتويجه كفنان "معروف"، و معترف به (نقاد، مقدمون، تجار...الخ). (20). يحدث هذا بالمجتمعات الحديثة، أما بمنجمعاتنا بعاهاتها ، فالسلطة التقليدية المتخلفة المهووسة بتأبيد شرطها و لو على حساب انقراض شعوبها، تبقى هي صاحبة الكلمة الأولى لأنها صاحبة أكبر مصلحة في استمرار الأسئلة الزائفة و التي مستها الشيخوخة، و التي تكرر نفسها ، و التي ضاع أصحابها بفعل التضخم الفادح للأنا ، و التي تكره "الانفصال" بلغة الفلسفة. إلا أن كل ذلك لا يمنع من انتشار بعض الجديرين به رغم ضراوة الاغتيال الرمزي، و لكن تحت وطأة آلام مبرحة وقدرة على التحمل هائلة، أو بضمان الشهرة بالجغرافيا التي تحتفي بالفكر و المفكرين قبل العودة (بالشهرة) إلى أرض السواد، أو بالحيلة... . و لا عيب أبدا في ذلك ما دام شعراء و قصاصو و روائيو و فلاسفة الأنابيب يتكاثرون كالفطر، وفعلهم التسطيحي الخبيث يهدد أجيالنا بالضياع.
__________________________
هوامش:
1-Pierre Bourdieu : Raisons pratiques- sur la théorie de l’action- édition : Seuil –
1994 – p : 96
2-Pierre Bourdieu : Les règles de l’art – Genèse et structure du champ littéraire
–édition du Seuil- 1992.
3-Pierre Bourdieu : Science de la science et réflexivité : édition : Raison d’agir –
Paris- 2001.
4-Pierre Bourdieu : Raisons pratiques- op.cit.- p : 65.
5-Pierre Bourdieu : Raisons pratiques –op.cit.-p : 65.
6-Pierre Bourdieu : Raisons Pratiques –op.cit –p : 63.
7-Pierre Bourdieu : Raisons Pratiques – op.cit – p : 66.
8- Pierre Bourdieu : Raisons pratiques – op.cit – p : 67.
-9يستعمل بورديو مفهوم "الميكروكوزم" بمعنى الحقل الذري أو الحقل الخاص لإنتاج صنف أدبي أو معرفي خاص (شعر، رواية، فلسفة...) له بنيته الخاصة و قوانينه الخاصة.
10-Pierre Bourdieu : Raisons pratiques – op.cit. p. : 68
11- Pierre Bourdieu : Les règles de l’art – op. Cit. –p. :264.
12- يقصد بورديو بمفهوم "الهابيتوس" مجموع الاستعدادات التي تطبع في الأفراد ضمن موقع معين و شروط معينة، و التي تجعلهم يتصرفون وفقها (الاستعدادات) لا وفق ما يريدون/يختارون أو وفق شرطهم أو وفق ما يقتضيه العقل... .
13- Pierre Bourdieu : Raisons pratiques – op.cit – p. :71.
14- Pierre Bourdieu : Raisons pratique – op. Cit – p. : 68.
15- واضح جدا في حالة المجتمعات التقليدية أن هذا الصراع يحسم في الغالب لصالح المكرّسين نتيجة الدعم الذي يتمتعون به من طرف السلطة التقليدية و المؤسسات الموازية لها، و أنه لا تتاح الفرصة لانتصار المنبوذين إلا في حالات ناذرة ، بالحيلة و ذكاء أحيانا ، و بمعاناة لا حدود لها أحيانا أخرى.
16- محمد الشيخ: المثقف و السلطة – دراسة في الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر – دار الطليعة – بيروت – الطبعة الأولى – 1991 – ص: 18.
17- محمد الشيخ: نفس المرجع – ص: 18.
18- Pierre Bourdieu : Les règles de l’art – op. Cit – pp : 212-213.
19- Florian – Parmentier : La littérature et l’Europe – Histoire de la littérature Française de 1885 à nos jours – Paris – Eugène Figuière – 1994 – pp : 292-293.
20- Pierre Bourdieu : Les règles de l’art – op. Cit- p : 280.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
عبير الروح- عضو ماسي
-
عدد المساهمات : 29839
نقاط : 115307
تاريخ التسجيل : 09/02/2010
رد: بيير بورديو (اهم مقالته السوسيولجية)
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
و في الرابط الي تحت كتاب من اهم كتب بورديو
بعنوان اسباب عملية لاعادة النظر بلفلسفة
للتحميل اضغط على هذا الرابط
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
يارب اكون وفقت في الالمام باهم الدراسات لهذا العملاق
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
و في الرابط الي تحت كتاب من اهم كتب بورديو
بعنوان اسباب عملية لاعادة النظر بلفلسفة
للتحميل اضغط على هذا الرابط
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
يارب اكون وفقت في الالمام باهم الدراسات لهذا العملاق
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
عبير الروح- عضو ماسي
-
عدد المساهمات : 29839
نقاط : 115307
تاريخ التسجيل : 09/02/2010
رد: بيير بورديو (اهم مقالته السوسيولجية)
مبدعه وموضوعك من اكثر المواضيع اللي قرأتها ثراءً
أنا من المهتمين بهذا العالم الفرنسي الكبير حيث أنه أعاد تفكيك الأسس التي قام عليها علم الاجتماع وصاغها بطريقة مقنعه جداً
شكرا لكي
أنا من المهتمين بهذا العالم الفرنسي الكبير حيث أنه أعاد تفكيك الأسس التي قام عليها علم الاجتماع وصاغها بطريقة مقنعه جداً
شكرا لكي
sociologist- عضو جديد
-
عدد المساهمات : 1
نقاط : 13657
تاريخ التسجيل : 08/06/2012
شهد القلوب :: شهد الأدبية :: المكتبة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى